أحسن ما في الإنسان القول. أحسن القول الغناء. أحسن ما في الغناء سماع الغير له. الغناء والسماع وجهان لعملة واحدة. يحلو الغناء مع الموسيقى ويحلو معهما الرقص. ذلك، في تراثنا، من الثوابت بما يشبه الشجر والتراب والبحر والجبل، هو بيئتنا الطبيعية. إن لم يكن هو طبيعتنا فهو من ثوابتها.
في عصور الزهو العباسية كان زرياب المغني والموسيقي تلميذ إبراهيم الموصللي. لما أشكل الأمر بينهما هرب زرياب غرباً. عندما بلغ قرطبة، في الأندلس، خرج أهلها من السور لملاقاته.
كان الفيلسوف الكبير، الفارابي، في بلاط سيف الدولة مدة من الزمن. دخل يوماً مجلس الأمير فعزف على وتر وأبكاهم، وعزف شيئاً آخر فأضحكهم.
من تحف كتب التراث العربي (والإسلامي) كتاب الأغاني. هو ديوان شعر هذه الأمة. مؤلفه أبو الفرج الأصفهاني. هو قرشي أموي. وهو الذي ألف كتاب «مقاتل الطالبيين».
ألا يسترعي الانتباه عندنا أن الغناء والرقص فيهما عند الأداء الكثير من التلقائية والخروج على الخطوات المحددة سلفاً كما الخروج على النوطة، بخلاف ما هو سائد في الغرب. أليس المحيِّر أن العرب المسلمين بلغوا ما جعلهم يكتبون النوطة الموسيقية وعزفوا عن ذلك؟
في الغناء عندنا علاقة إبداع متواصل، علاقة بين الموسيقي والمغني والجمهور، يضاف إليهم الراقص. يتغير النغم الموسيقي امتداداً أو تقصيراً حسب مزاج الجمهور الذي يتجاوب مع الموسيقي والمغني، كذلك الراقص يتماهى هؤلاء كلهم فيمارسون حريتهم، وهذه أساس كل الحريات الأخرى من سياسية وغيرها. المغني يغني شعراً كُتب. الراقص يكتب بجسده. الموسيقي يكتب بوتره أو مزماره. في ائتلاف هذه الأشياء لحظة طرب لم يستطع أي نظام سياسي اختراقها.
عند من يغني أو يطرب أو يرقص موهبة. في كل احتفال أو سهرة طربية، يكون معروفاً من هم الذين يجيدون هذه الأشياء من بين الناس. يفرح الناس عندما يرونهم في الممارسة سوية، يرقصون ويطربون ويفرحون حسب نغم داخلي واحد.
في المآتم، خاصة عند دفن الشباب، اعتاد الناس أن يرقصوا بالمحمل كي يكتمل فرح حُرموا منه.. واعتادوا أيضاً على الغناء والزغردة في المناسبة عينها.
منطقتنا مجبولة بالمآسي، عبر التاريخ. مسافاتها طويلة. كيف يمكن للمسافر تمضية الوقت بالانسجام مع تضاريس الأرض وخطوات الحيوان الذي يركبه دون الحداء؟ دخل الحداء كل بيت وأصبح لازمة للأم التي تضع رضيعها للنوم.
الذين حُرموا السماع في تاريخنا، من السنّة والشيعة، ارتكبوا في الوقت نفسه مجازر جماعية لإبادة المختلفين مذهبياً كي يسود المذهب الواحد. وذلك منذ ألف عام حتى اليوم.
ليس لتحرير الأرض معنى دون تحرير الإنسان. يتحرر الإنسان بحواسه أولاً، في الشعر والغناء والموسيقى والرقص، ثم يتحرر بفكره ثانياً. هذا أساس لكل تحرر آخر. لا معنى لوجود الإنسان دون الحرية. نادراً ما تغني الحيوانات غير البشرية. يصعب تحويل الإنسان إلى مثيل لها. يكتسب الإنسان المعنى الإنساني بالشعر والموسيقى والرقص والغناء. تضاف إليها الفنون التشكيلية. لم يحرِّم الدين شيئاً من الفنون التقليدية أو التشكيلية. الفقهاء فعلوا ذلك من أجل السيطرة على العقول. التحريم هنا نوع من فرض السلطة على الغير. يكفي بلادنا ما فيها من الاستبداد. فاض عنا الاستبداد حتى عطّل إمكانية التقدم. أبقانا لاجئين في أرضنا، نسير في الشارع ونختبئ من حائط إلى حائط للوصول إلى البيت كي لا يرانا الرقيب الذي يمكن أن يفسر كل حركة من حركاتنا على أنها معادية للنظام. مجتمع جُرِّد من حيويته. هو كشجرة يابسة لا تثمر.
إذا كان منع الغناء قياساً على الحريات الأخرى، فإن مستقبل مجتمعنا لا يبشر بالخير. ليس الأمر مناقشة السماح لصوت فيروز العظيمة، وحسب، بل يتعلق الأمر أيضاً بمبدأ الحرية وتقدم المجتمع وتحرر الناس واستكمال إنجاز ما يمكن من التطور والتقدم.
القول المقدس: وما خلقتم إلا لتعبدون. الفن أيضاً ربما في السماع، شكل من أشكال العبادة. ربما كان الشكل الأرقى للعبادة، الشكل الذي يتجاوز العبادة. نكون أحراراً بأن نتجاوز…