كشف الاعتداءان المتزامنان على سفارة المملكة العربية السعودية في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد الإيرانية، وحرقهما، عن نوايا مبطّنة تجاوزت دعاء ورغبة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي بأن يطال «العقاب الإلهي حكام السعودية» بعد حادثة إعدام 47 شخصاً من بينهم رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر الذي أصدرت محكمة في الرياض متخصصة بقضايا «الإرهاب»، قبل عام، حكماً بإعدامه بعدما دانته بتهم «الدعوة إلى الفتنة» و «حمل السلاح» و «الخروج على ولي الأمر».
فقد هدّد نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان بأنّ «إعدام الشيخ النمر سيكلف السعودية ثمناً غالياً»، مع أنّ الأنباء، من مصادر متعدّدة، تُفيد بأنّ طهران أعدمت، العام الماضي، زهاء ألف شخص، بل إنّ منظمات حقوق الإنسان تصنّف إيران باعتبارها من أكثر الدول تنفيذاً لأحكام الإعدام في العالم.
ولئن كشف الاعتداء على المقار الديبلوماسية السعودية في إيران عن أحقاد تاريخية «فارسية» مع الجيران العرب، وبخاصة دول الخليج، إلا أنّه كشف، وهذا هو الأهم، عن ثقوب في ثوب التضامن العربي، لا يتعيّن القفز عما تحمله من استحقاقات لا تخفى على الرياض بالتأكيد.
وما يلاحظه المراقب أنّ ردّة الفعل العربية، وبخاصة بعض دول الخليج (قطر وعُمان تحديداً) جاءت دون المستوى المأمول، فالبلدان صمتا أربعة أيام، قبل أن تتحرك الدوحة فتستدعي سفيرها من طهران، في حين اكتفت مسقط بالأسف، واعتبار إحراق السفارة والقنصلية السعوديتين في طهران أمراً «غير مقبول»، بينما سارعت الكويت على الفور إلى استدعاء سفيرها من طهران، وخفّضت الإمارات مستوى التمثيل الديبلوماسي مع إيران، وقطعت البحرين علاقتها مع طهران.
وكانت الدولتان العربيتان الوحيدتان، خارج دول الخليج، اللتان قطعتا علاقاتهما بإيران هما السودان وجيبوتي، فيما اكتفت مصر وتونس بالإدانة، واستدعى الأردن السفير الإيراني في عمّان وأبلغه احتجاجه على الاعتداء.
وما يجعل ردّ الفعل العربي مخيّباً للآمال، أنّه تغافل عن حقيقة أساسية، وهي أنّ إحراق المقرّات الديبلوماسية السعودية، جاء تتويجاً للشحن السياسي والعسكري والمذهبي الذي تشنّه طهران ضد الرياض وبعض دول الخليج، فضلاً عن تدخلاتها في العراق وسورية واليمن ولبنان، ومصر وسواها من بلدان تطاولها نزعتها التوسعيّة التي دفعت وزير الاستخبارات الإيراني السابق حيدر مصلحي، إلى التباهي بأنّ بلاده «تحتل أربع عواصم عربية»، فضلاً عن تطويقها باب المندب، من خلال الدعم غير المحدود للحوثيين في اليمن.
أضف إلى ذلك، أنّ في تغليب بعض الدول العربية مصالحها السياسية، والاعتصام بالبراغماتية في علاقتها بإيران، والتغاضي عن تدخلات إيران المتواصلة في سياسات الدول الأخرى، ووصايتها على مواطني تلك الدول، ما يـــبعــث على الشعور بـــأنّ ردع إيران ومحاصرتها أمرٌ ليــس في متناول اللحظة العربية الراهنة، وهذا يمنح دولة ولايـة الفـقـيه المزيـد من الثقة والدعم، ما دام أنّ الغاضبين حفنــة قليـلة، وأنّ كفة المستفيدين من عدم توتيــر علاقات بلادهم بطهران، أكثر رجحاناً، خشية أو انتهازيّة أو نأياً بالنفس عن الاشتباك في ما لا يحتلّ أولوية في قضاياهم الوطنيّة.
إنّه درس بليغ، يؤكد الوجه القبيح للسياسة، وتحالفاتها الانتهازيّة، وتحلّلها من الثوابت والمعايير الأخلاقية. كما يكشف، علاوة على ذلك، سقوط «أكذوبة التضامن العربي» رغم أنّ من يتعين التضامن معه والوقوف المخلص إلى جانبه، دولة كبرى بحجم السعودية تسعى لحماية نفسها والآخرين من نزعة التوسع والغطرسة والتوحش الإيراني، ولئلا يرتفع باضطراد عددُ العواصم العربيّة التي يتباهى قادة إيران باحتلالها!