تنفس اللبنانيون الصعداء مع ولادة الحكومة الجديدة، بعد تعسر دام أكثر من عام، وإستهلك ثلاثة رؤساء مكلفين، وإستنزف مقومات الحياة الحيوية، وطالت إنهياراته القطاعات الإنتاجية والخدماتية، وطارت خلاله المليارات من إحتياطات البنك المركزي، وتحولت حياة اللبنانيين إلى جحيم لا يُطاق، بعدما تحققت توقعات رئيس الجمهورية بالذهاب إلى جهنم، في حال التأخر بتشكيل الحكومة.. وهذا ما حصل فعلاً ولم يبقَ مجرد قول!
غير أن ترحيب اللبنانيين المتلهّفين لوجود حكومة تتمتع بكامل الصلاحيات الدستورية، وتكون قادرة على وضع البلد على سكة الإنقاذ، مازال يشوبه بعض الحذر، قياساً على تجارب سابقة لم تكن على مستوى موجات التفاؤل التي أحاطت بها، بسبب سرعة إنتهاء «شهر العسل» بين المكونات السياسية للحكومة، وعودة الخلافات التقليدية بين بعض أطرافها، وما يرافقها عادة من مماحكات وكيديات تُعطل العمل الحكومي، وتحول دون إتخاذ القرارات اللازمة بالسرعة المطلوبة.
ورغم أن الحكومة الميقاتية تضم نخبة من أصحاب الكفاءة والإختصاص، ويتميز رئيسها بالحنكة والقدرة على تدوير الزوايا، إلى جانب ما يتمتع به من مروحة دعم دولي وعلاقات عربية، إلا أن سقف طموح اللبنانيين من الإنجازات المنتظرة من الحكومة يبقى متواضعاً، ويكاد ينحصر بالضروريات الملحّة لعودة الحياة اليومية إلى بعض طبيعتها، بعد تلك الفترة من المعاناة السوداء التي لم يعرفها البلد منذ مجاعة الحرب العالمية الأولى.
ورئيس الحكومة يُدرك جيداً أن مشكلة الكهرباء هي الأولوية المطلقة عند اللبنانيين، وإن كانوا لا يتوقعون إنجازات بحجم المعجزات من حكومته. ولكن إنهاء عصر العتمة وإعادة الحياة إلى خطوط الكهرباء يبقى المقياس الأساس لمدى نجاح الحكومة في التصدي للتحديات التي تُغالب حياة الناس، وتأكيد قدرتها على البدء في إخراج لبنان من جهنم، وإن كانت عودته إلى جنة حياته السابقة غير واردة، بل غير ممكنة، بمدى الأشهر القليلة المتبقية من العهد الحالي.
ورفع الدعم عن المحروقات قد يُنهي طوابير الذل عند محطات البنزين، ويُوفر المازوت للمصانع والمولدات والأفران والمستشفيات، ولكنه يُحمل المواطن العادي أعباء لا يستطيع تحملها، إذا لم يقترن رفع الدعم بتخفيض قيمة الدولار،من جهة، وتقديم بدل نقل وكل ما من شأنه مساعدة الموظفين وأصحاب الدخل المحدود على التكيف مع الأسعار الجديدة للكهرباء والمحروقات، فضلاً عن إتخاذ الإجراءات الرادعة للحد من جنون أسعار السلع الغذائية.
لا تستطيع هذه الحكومة بالذات أن تتخذ قراراتها بالمفرّق، بمعنى أن يُبادر كل وزير إلى إتخاذ الخطوات المناسبة في إطار وزارته، بل على العكس هي بأمسّ الحاجة للعمل بروحية وأسلوب فريق العمل القادر على الإطاحة بالملفات الشائكة من مختلف جوانبها نظراً للتداخل، وأحياناً الترابط بين الجوانب المشتركة للمشاكل المستفحلة التي يرزح تحت تداعياتها البلد.
أما الدعم الخارجي الذي أعلنته أكثر من دولة محورية، فيبقي مجرد حبر على ورق إذا بقيت الخطط الإصلاحية التي التزم بها لبنان في عالم الغيب، ولم تأخذ طريقها إلى التنفيذ بشكل مقنع وشفاف، يُشكل ضمانة بعدم ذهاب أموال الدعم إلى قنوات الفساد في جيوب السياسيين والمحاسيب. وإعادة فتح أبواب المساعدات الخارجية، وخاصة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، يحتاج إلى خطط واضحة، مدعومة بأرقام واقعية، تتجنب تكرار ما حصل مع حكومة حسان دياب، الذي أوقف الصندوق التفاوض معها بسبب تضارب الأرقام بين البنك المركزي ووزارة المالية، وعدم وضوح خطة الحكومة في الحد من التدهور، وهو في بداياته، والمعالجات التي ستعتمدها في تجنيب البلد السقوط في جهنم.
ويسألونك: وماذا عن الدعم العربي؟
بخلاف كل الترويجات المغرضة، يمكن القول أن الدول العربية لم تدر ظهرها للبنان في محنته المدمرة، ولكن من حق العواصم العربية أن تطالب بعودة لبنان إلى الحضن العربي، حتى تستأنف مساعداتها السخية لوطن الأرز، الذي طالما وقف العرب إلى جانبه.
في ملماته الداخلية، وإبان الإعتداءات الإسرائيلية، وآخرها حرب تموز ٢٠٠٦ والموقف الخليجي واضح وصريح، وخاصة في ما يتعلق بالمملكة العربية السعودية التي شاركت في كل المؤتمرات التي عُقدت لمساعدة لبنان، ولكنها إلتزمت بشروط تلك المؤتمرات المتعلقة بتحقيق الإصلاحات المالية والإدارية من جانب الحكومة اللبنانية، فضلاً عن ضرورة عودة لبنان إلى الصف العربي.
وأخيراً، يبقى المطلوب من الحكومة الجديدة إنهاء مرحلة إتخاذ القرارات الغبية، وخاصة ما يتعلق منها بهدر المليارات في دعم موهوم، ذهبت أمواله إلى جيوب التجار والمحتكرين، والحد من تفلّت الأسعار بحجة ارتفاع الدولار، إلى جانب طبعاً إعطاء الأولوية المطلقة للكهرباء.
ولكن هل إنتهى عهد إتخاذ القرارات الشعبوية الغبية؟