IMLebanon

ولادة الحكومة بعد تسوية جديدة

 

فجأة نفّذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب انعطافة، فتخلّى عن لغة التهديد تجاه إيران داعياً مسؤوليها الكبار الى التفاوض بلا شروط مسبقة. فهل يؤشر ذلك الى أنّ الإدارة الأميركية استنفدت وسائل ضغطها واقتنعت بأنها لن تجدي ولن تدفع بنظام الملالي الى الرضوخ والهرولة لاتّفاقٍ جديد نووي وسياسي بشروط أميركية؟

قد يكون من المبكر بعض الشيء الذهاب الى هذا الاستنتاج، لكنّ خطة الضغط الهجومية التي كانت واشنطن انتهجتها قبل زهاء ثلاثة اشهر فقدت كثيراً من زخمها. يومها كانت الادارة الاميركية تعمّم بثقة أنّ الضغوط التي باشرت بها تجاه إيران الجريحة اقتصادياً ربما ستدفع بالنظام الإيراني الى الجلوس مُكرَهاً حول طاولة مفاوضات جديدة تلحظ تفاهماً سياسياً يضمن المصالح السياسية الاميركية في الشرق الاوسط.

واستباقاً لمحطة 6 آب موعد فرض عقوبات جديدة على إيران تصاعدت التهديدات الاميركية بنحو عنيف. ففي 22 تموز الماضي أدلى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بخطاب هاجم فيه إيران بشدّة، وجاء ردّ الرئيس الإيراني وزعيم تيار الإصلاحيين حسن روحاني عليه مدعوماً من مرشد الثورة السيد علي خامنئي والحرس الثوري والجناح المتشدّد أو المعروف بجناح المحافظين، وما لبث أن دخل على خطّ الاشتباك ترامب نفسه ومستشاره للأمن القومي جون بولتن.

وليس سرّاً انّ إدارة ترامب استندت في خطتها الهجومية الى مسألتين:

ـ الأولى، تتعلّق بالوضع الاقتصادي الصعب الذي يكاد يخنق البلاد، وبالتالي فإنّ رفع مستوى العقوبات سيخنق البلاد أكثر فأكثر وسيدفع الناس الى التعبير عن غضبهم من خلال الشارع.

ـ الثانية، ميل الإصلاحيين الذين يتزعّمهم الرئيس الايراني ويحظون بتأييد «البازار»، أو التجار، الى إنجاز تفاهم ثابت مع الأميركيين يؤدّي الى إنعاش الوضع الاقتصادي وتأمين المصالح الإيرانية في الوقت نفسه.

لكنّ المفاجأة انّ الشعب الإيراني الغاضب خرج من الشارع وأعطى الاولوية لنزاعه مع الخارج، وأنّ الإصلاحيين اقتربوا من المحافظين معتبرين أنّ المسألة أصبحت تخصّ الدولة الإيرانية.

ووسط الخصومات الكثيرة التي ابتدعها ترامب مع دول العالم وجد الإيرانيون أكثر من مسلك لتأمين «الأوكسيجين» الاقتصادي لهم، مرة من خلال الصين، ومرة أُخرى من خلال روسيا، واحياناً من خلال اوروبا. ولم يتوقف الأمر هنا بل إنّ الضغط العسكري من خلال هجوم «التحالف العربي» على الحُدَيدة في اليمن فشل في تحقيق أهدافه ما أدّى الى إيقافه، وجاء الرد عبر استهداف الحوثيين ناقلات النفط السعودية في مضيق «باب المندب» والاستمرار في إطلاق الصواريخ البالستية في اتّجاه السعودية، والجديد كان استهداف مطار أبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة. وكما وجد ترامب في رفع مستوى الاشتباك السياسي مع طهران منفذاً للهروب من النتائج الكارثية لقمّته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي، وجدت القيادة الإيرانية في تصعيد المواجهة السياسية باباً لتشتيت الانتباه الداخلي عن الأزمة الاقتصادية.

رفضت طهران دعوات واشنطن وأعادت التذكير بقدراتها على استهداف المصالح الأميركية في الشرق الاوسط وهي التي تدرك أنّ واشنطن لن تذهب ابداً الى الحرب المباشرة معها، كما أنّ طهران ترفض هذه الحرب.

لكن تحت هذا السقف فإنّ اللعبة مفتوحة فلإيران، ومن خلال حلفائها الكثر في بلدان الشرق الاوسط، قدرة على استهداف المصالح الأميركية.

وفي ثمانينات القرن الماضي، حين كانت ظروف إيران أصعب وإمكاناتها اقلّ بكثير فنجحت بالتفاهم مع سوريا في توجيه ضربات موجعة للأميركيين والفرنسيين في لبنان و إخراجهم من الساحة. ومع الاحتلال الأميركي للعراق نجحت إيران مرة جديدة في إشعال الارض تحت أقدام الجيش الاميركي ودفعه بالتالي الى الانسحاب.

الخبراء في السياسة الاميركية يقرّون بأنّ الادارات الاميركية كانت تحرص على ابتعاد واشنطن من إثارة ايران، حتى إنّ إدارة جورج دبليو بوش عندما كانت المجموعات المحسوبة على إيران تُسقط الجنود الاميركيين كانت تحرص على عدم الانزلاق في اتّجاه مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران وتكتفي بتصعيد سياسي من مثل تصنيف إيران ضمن «محور الشرّ».

ويدرك هؤلاء الخبراء أنّ أحد اسباب مواجهة طهران لواشنطن في العراق العمل على إبعاد تلك القوة الهائلة من حدودها.

وفي تسعينات القرن الماضي، وتحديداً مع تنظيم القوة العربية لتحرير الكويت من جيش صدام حسين، أعلن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد موافقته على ذلك ومشترطاً عدم تجاوز الحدود العراقية. وحين سئل عن سبب معارضته لإزاحة ألدّ أعدائه كان جوابه أنّ «من السذاجة الموافقة على إدخال الجيش الاميركي الى قلب العراق وتركه يتمركز بالقرب من الحدود مع سوريا».

من هنا السؤال عن الخلفية الحقيقية لإعلان ترامب المتكرّر عن رغبته سحب قواته الموجودة شمال سوريا على مقربة من القوات الايرانية التي من مهماتها تأمين التواصل البري المضمون بين طهران والساحل اللبناني.

المهم أنّ ثمّة أحداثاً كبيرة تهدف الى تثبيت معادلات جديدة. قد تكون إدارة الرئيس ترامب فشلت حتى الساعة في ترتيب معادلة ميدانية في الشرق الاوسط تعطيها المساحة التي تطلبها مع التأكيد مرة جديدة انها لن تذهب في ضغوطها الى البعيد في وقت تعي المؤسسات الاميركية العناوين الواجب عدم المَسّ بها، وأنّ الاشتباك السياسي مهما ذهب بعيداً لا يمكنه أن يطاول ضوابط تحرص واشنطن على عدم المَسّ بها حماية لمصالحها.

ولكن يجب الإقرار أيضاً أنّ لروسيا مصالحها وحضورها الجديد والفاعل في الشرق الاوسط والذي سيشكّل حكماً باباً لترتيب الامور بين المتنازعين، وهو ما يعني أيضاً تكريس دور موسكو والإقرار بمصالحها أيضاً، وهو ما يعني أيضاً وأيضاً أنّ جولة الضغوط قد لا تكون انتهت، وأنّ لبنان يتأثر بها مباشرة وبمقدار كبير. فإيران بدأت تتحدث منذ مدة عن إنجازات وانتصارات لها في لبنان، وعن مصالح حيوية لها في هذه الساحة.

وفي المقابل هنالك استفاقة سعودية وسعي الى مواجهة إيران ومحاولة احتواء النقاط الثمينة التي حققتها. ومن هذه الزاوية يجب قراءة مشكلات التأليف. وهو ما يعني أنّ السعي لتأليف «حكومة العهد الثانية» وفق أسس التسوية الرئاسية، والتي أُنجزت منذ أقل من سنتين هو العقدة الفعلية التي تمنع تأليف الحكومة.

تلك التسوية ارتكزت على «النأي بالنفس» من سوريا والابتعاد عن نزاع المحاور، ولو من خلال المواقف السياسية. فيما الواقع أنّ الرئيس بشار الأسد حصل على «براءة ذمّة سياسية» من الشرق والغرب، ومن ولي العهد السعودي نفسه وهو ما يريد تطبيقه من خلال برنامج عمل الحكومة المقبلة. كما أنه لا بدّ من استذكار ما كان أعلنه قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني غداة إعلان نتائج الانتخابات النيابية من أنّ إيران فازت بـ 74 مقعداً واستطراداً كيف يمكن أن تقبل الغالبية النيابية الجديدة بحكومة معاكسة لها.

وفي الانتظار لا بدّ للكباش الحكومي من أن يأخذ مداه الزمني قبل أن يجري في الكواليس نسج تسوية سياسية جديدة تسمح بولادة الحكومة شرط أن تتولّى روسيا هذه المرة تدوير الزوايا وهندسة هذه التسوية انسجاماً مع دورها الجديد، وقبل ذلك لا يجب «الغرق» في «بُقع» التفاؤل تماماً كما غرق كثيرون منذ بضعة أيام.