تعرّف اللبنانيّون جيّداً على نسق تفجير العبوة الصغيرة التي زرعت في مقعد طائرة الهليكوبتر التي تقلّ الرئيس رشيد كرامي من طرابلس إلى بيروت، مع تكرار استخدام هذا النوع من المتفجرات في اغتيال الصحافي والمؤرخ سمير قصير وجورج حاوي، ومحاولة اغتيال مي شدياق، وللمفارقة أنّ نفس التفجيرات التي استهدفت المناطق اللبنانيّة بُعيْد انسحاب جيش الاحتلال السوري، هي نفسها استهدفت بسيارتين مفخختين واحدة سوق الخضار في طرابلس بعد ذكرى الأربعين بنحو أربعة أيام وأخرى قرب المركز التربوي الذي يحمل اسم الرئيس كرامي، إلا أنّ الحدث الأبرز قبل الاغتيال كان مطاردة رئيس الحكومة رشيد كرامي في بيروت الغربيّة في رسالة حادّة استهدفته بإلقاء قنبلة يدويّة أثناء وجوده في السراي الحكومي الموقّت في الصنائع (مقرّ وزارة الداخليّة) أواخر العام 1986، غادر كرامي مسرعاً إلى منزله في تلّة الخياط فعاجلوه بإطلاق قذيفة صاروخيّة استهدفت منزله، من يتذكر اليوم إطلاق صاروخين على تلفزيون “المستقبل” في رسالة تهديد بالقتل للرئيس رفيق الحريري؟!
اغتيال رشيد كرامي كان خطوة على طريق الفراغ الحكومي تمهيداً للفراغ الرئاسي، الرجل نفسه صرّح وهو يغادر السراي الحكومي ردّاً على رفض إجراء انتخابات رئاسيّة تحت الاحتلال السوري “يبشرون بأنه لن تكون هناك انتخابات رئاسية في ظل الوجود السوري فكيف كانت الانتخابات الماضية في ظل الاحتلال الاسرائيلي ومكان الانتخاب كان مسيّجاً بذلك السلاح العميل المشبوه ومع ذلك قبلنا بنتيجة تلك الانتخابات التي لا نزال نعاني منها وبسببها”، كان النظام السوري قد اختطف عبر 6 شباط سيطرته على بيروت الغربيّة ومهّد لعودة الاحتلال إليها مطلع آذار العام 1987، وحده موقف مفتي الجمهورية الشهيد حسن خالد كان واضحاً جدّاً بُعيْد اغتيال رشيد كرامي، بل كان موقفه إشارة إلى القاتل الحقيقي ورفضاً صارخاً لكلّ محاولات القاتل السوري بإجباره على قصدها عبر طوافة عسكرية تظهر اتهام المسيحيين أو “القوات اللبنانية” باغتيال رشيد كرامي!
الذهاب إلى طرابلس بالسيارة من بيروت الغربية وقطع المنطقة الشرقيّة واحدة تلو الأخرى باتجاه طرابلس فيها الكثير من الرمزيّة وإعلان البراءة من اغتيال كرامي، على الطريق في كل منطقة كان يمر بها، كيف كانت الميليشيات المسيحية تقف وتؤدّي له التحية وتنزله بالقوة من سيارته وتكرمه أشد التكريم، وهذا هو المشهد الذي كان يُخيف السوري أن يظهر، المشهد ذاته سيتظّهر فور اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط العام 2005.
ستظلّ أفضل الشهادات على براءة الدكتور سمير جعجع من دماء رشيد كرامي ذلك الحديث الصحافي الذي أدلى به نجل المفتي الشهيد المهندس سعد الدين خالد لمجلّة “الشراع” راوياً فيه تفاصيل انتقال والده الشهيد إلى طرابلس للمشاركة في جنازة الرئيس كرامي، “وصل الشيخ حسن خالد الى طرابلس ودخل منزل الشهيد رشيد كرامي فوجئ بنائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام موجوداً بين القيادات هناك بمن فيهم أعضاء من اللقاء الإسلامي وكان الجوّ مكفهراً وكان بعضه يعود في اكفهراره الى حادثة استشهاد رشيد كرامي فيما كان بعضه الآخر عائداً في اكفهراره وتأزّمه الى “مناقشة عاصفة” حدثت حينها وكان محورها إسراع اللقاء الإسلامي بتسمية الرئيس سليم الحص خلفاً للرئيس الشهيد كرامي مما أثار حفيظة السيد عبد الحليم خدام الذي قال للحاضرين: “الفراغ يناسبنا”!!
وسيبقى الحديث الصحافي الذي أدلى به النائب خالد الضاهر لجريدة “الأنباء” في أيار العام 2014 يستدعي تحرّك النيابة العامة للسؤال عن أوّل تصريح كشف وبالأسماء أسماء ضباط المخابرات السوريّة المتورطين في اغتيال رشيد كرامي ومكان تفخيخ طائرة الهيلوكبتر في ﻣﻌﺮﺽ ﻃﺮﺍﺑﻠﺲ، الذي يحمل اليوم إسم الرئيس رشيد كرامي، الذي ما زال حلفاء قتلته من آل كرامي يتاجرون بدمائه استجداءً لمنصب سياسي ليس إلا!