ماذا بعد «تفجير» الحوار اللبناني؟ الحكومة المتردّدة على الطريق؟ ألا يجوز الدفاع عن «الميثاقية» أولاً، والتعرُّف إلى «مظلومية» المسيحيين بعد «مظلومية» السنّة والشيعة؟
ولماذا يكون الإصرار على انتزاع «حقوق الطوائف» مستهجناً، فيما بعض اللبنانيين لا يجد طعامه إلا بين أكوام النفايات، ولا يقوى أحد على منع أضرارها العالقة بالبيئة المنكوبة منذ شهور طويلة، ومنع لسعها صحة أطفال لم يتعرّفوا بعد إلى أطفال السياسة اللبنانية؟
وإذ اعتاد الجميع التعطيل القسري لانتخاب رئيس، وشلل الحكومة بالإكراه، ونخر المؤسسات بالفساد والصفقات، ابتدعت الطبقة السياسية كل وسيلة لتحصين تبادلها الخدمات التي تمدّد نظاماً طائفياً يكرهه الجميع قولاً، لكنهم لا يدّخرون سبيلاً في حمايته.
والكارثة في تعطيل الحوار أن تلك الطبقة التي اعتبرته سبيلاً وحيداً لمنع الفتنة في الشارع، لا تتورّع عن الرهان على المجهول المخيف، ولم تلتقط العبرة رغم مرور خمس سنوات على الحريق الكبير في المنطقة. فإذا التقى التشنُّج المذهبي العالق على خط التوتر العالي في الإقليم، مع تحريض طائفي أو مذهبي أرعن، من أي طرف في لبنان، هل يبقى أي ضمان لمنع تمدُّد الفوضى والمآسي من سورية والعراق، وإطاحتها ما بقي من كيان للبنانيين؟
في البلد الصغير الجميع «مظلوم» إلا لبنان، وبعض اللغة التي تتعمّد تعبئة طائفية غرائزية، هدفها النهائي معروف، من شأنه أن ينقل الحرب الباردة والمريرة بين مَنْ يدّعون احتكار تمثيل طوائفهم، إلى النفق المظلم الذي أحرق سورية والعراق.
وبعد كل التجارب والمحن التي طغت على تاريخ لبنان المستقل، هل يخطئ مَنْ يعتبر أن «مختبر التعايش بين الطوائف» كشف الكذبة الكبرى، لأن المحنة الأم هي في تحوُّل كل حزب أو سياسي إلى «طائفة جوّالة»، تتقلب تحالفاتها… حتى إذا تعثّرت مصالحها، شهرت سيف الدين والعقيدة.
يخطئ كثيرون في تحميل معادلة «المصير»، «إما أنا وإما لا أحد»، مغزى ذا اتجاه واحد، لأن الاحتكار هنا ممنوع! وإذا كان صحيحاً ما تردّد طويلاً عن حصص جاهزة (كوتا) للقوى المعنية بلبنان النفطي، فالصحيح أيضاً افتراض عجز الطبقة السياسية عن إعادة إنتاج اتفاق الطائف (بدل تفعيله)، لتبرئة الذمّة «الوطنية» مع الطوائف.
لبنان النفطي يمكن أن يكون أيضاً «وطنياً»، مهما اختلف الساسة وتنازعوا حصص صفقات، لاحتواء أزمة النفايات، رأفة بالمواطنين… رأفة تأخّرت كثيراً، لا لمبرر خفي، بل لمجرد قياس مدى وطنية الحل، ونظافته.
معادلة إرضاء الطوائف، ذاك الحل السحري، وحدها تدفع الرموز إلى البحث عن صيغة تطوّع النظام والدولة ومؤسساتها، كل نحو عشر سنين، لمواكبة «مظلوميات» الطوائف… وما على اللبناني إلا أن يصدّق وجود خيط رفيع بينها وبين المواطَنَة وحقوقه.
هي مهزلة كبرى، بل محنة كبرى عبّروا عن سأمهم منها، بلا جدوى… شأن «حزب الله» أن يبقى في سورية، شأن الآخرين أن يرفضوا، وما على لبنان إلا أن ينتظر ما ستؤول إليه التركيبة الديموغرافية الجديدة لجار اعتبره عقوداً جزءاً منه، مثلما تتعامل إيران مع المحافظة السورية الآن، رغم اختلاف الوسائل!
حتى ذلك الحين، إلى أن ينجلي غبار الجحيم وحممه، أمام الطبقة السياسية اللبنانية حيّز من الوقت لـ «اللعب» في الفراغ. لكن هذه الرؤية لا تصمد في مرحلة ما بعد تعليق الحوار، ولن يكون مجرد تمرين وعرض عضلات، فرط عقد الحكومة، رغم كل ضعفها.
في الشارع، قناعة وحيدة تتغلب، فـ «هؤلاء السياسيون مختلفون على كل شيء، متفقون على رقاب اللبنانيين». ماذا يعني الدستور والميثاق لجيل ما بعد الحرب الأهلية، في ظل أزمات الظلام والمياه والنفايات والأغذية الفاسدة والصفقات المشبوهة، وإفلاس المؤسسات، وتطاول البطالة واندحار التجارة، وانفلات الأمن وتفشي الجريمة؟ كل ذلك، «مظلومية» مسيحية أم وطنية، فوق جدران الطوائف التي صادَرَ الساسة حق النطق باسمها وهي امتنعت عن عزلهم.
رغم كل مشاهد الفظائع في سورية والخراب في العراق والتشرُّد بين المخيمات والدمار والسجون، لا عِبرة في لبنان ولا مَنْ يعتبرون. في بيروت تشعر بأن طرفاً خفياً أطلق صفارة، معلناً نهاية شوط الحرب الباردة. أكثر من «حشد شعبي» جاهز لماراثون انتحار جماعي… إلى العراق درّ.