IMLebanon

قعر الوادي وقاع البحر

ثمة عالمان: واحد، في أوروبا، انعدمت فيه معدلات الولادة حتى الصفر أحياناً. عالم لا يريد أن يورّث أبناءه الحروب وأهوالها، مع أنه قادر على أن يوفّر لهم العمل والعلم والعلاج والفرص. وثمّة عالمنا، ومنه يخرج، كل يوم، ألوف المضطهَدين والبائسين إلى عرض البحار باحثين عن أي مرفأ أو رغيف أو أمان أو مستقبل. وفي هذا العالم، يخفَّض كل شيء، وتنعدم المعدّلات في العمل والعلم والأمان والنمو والضمان، إلا معدَّل الولادات، حيث يتضاعف، ومعه يتضاعف عدد الفقراء والأمّيين وقتَلة التفجيرات ومقتوليهم، ومَن ينجو، فإلى طوّافات الغرق في المتوسط.

حُصرت الأرقام القياسية عندنا في طول صحون الحمص والتبّولة. أو في حجم الكوارث. فالكارثة السورية هي الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، وفْق الأمم المتحدة، موتاً وتشريداً وتدميراً وتفقيراً. إلا، ربما، باستثناء العراق. أو الجزائر. أو لبنان. بعد الحرب العالمية، احتكرت هذه المنطقة، كل تدهور إنساني وكل انحطاط. ويحلو للأستاذ محمد حسنين هيكل أن يسمّيها “الإقليم”، على طريقة ابن خلدون، لكن على اختلاف الأسماء، الصفة والموصوف واحد.

عالمان، واحد للحياة والقانون. واحد اكتفى من حروب الإقطاع ومحاكم التفتيش وإحراق “المرتدّين”، واجتياح الحدود، وتأديب ونهْب الجيران، وقتْل المذاهب، وثأر القرون، وتسميم الأجيال، وتأليه الإلغاء، وتدليل العنف. وواحد يرفض الخروج من الكهوف. إحراق الطفل الدوابشة، أو إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، في إخراج ملوّن، بكل قُبح همَجي مجنون.

أدخلنا معنا إلى الكهوف آخر إبداعات التقدّم: الإنترنت! انظر إلى اللغة المستخدَمة. اقرأ الرسائل. طالع التعليقات. كم هو الفارق الزمني بين “آبل” وتورا بورا؟ بين عالم حمص، بلد والد ستيفن جوبس، وركامها ومشرَّديها ورمادها، بين العالم الذي صار هو فيه صاحب أغنى شركة في التاريخ. عالمان ولا ثالث لهما. الإسبان يقولون إما أسود وإما أبيض. الرمادي ليس لوناً، بل زنْدقة.

خدَعنا هذه الأكوام البشرية بأن رمَينا إليها لقب “الشعب العظيم”. ما هي عظمة أفقر شعوب العالم في اليمن؟ ما هي عظمة 40% أمّية في مصر؟ وإذا كان شعب سوريا عظيماً، فلماذا شرَّدنا نصفه ودمّرنا نصف دياره؟ ألم يخجل الشعب العربي العظيم من نفسه ووجوده، وهو يرى فرنسا تُرسل طائرة خاصة لنقل رهينة يكون في استقبالها رئيس الدولة؟ كرامة الوطن من كرامة المواطن. والرئيس مرؤوس عند أهله، لا إله عند أحد. ألا يخجل العربي العظيم من أنه لا يستطيع أن ينام آمناً إلا في أعالي البحار أو أعماقها؟ ألا يخجل – أيضاً، الشعب العظيم – من أن بلداً في حجم السودان وثروات السودان، رقَص طرَباً الأسبوع الماضي لأن السعودية أرسلت إليه وديعة بمليار دولار؟ أليس لدى السودان ما يُباهي به سوى تحدّي المشير البشير لمذكرة التوقيف الدولية؟ 400 ألف قتيل في دارفور. والمشير يجدّد لنفسه، بعد ربع قرن. والمشير اليمني يدمّر بلاده لاستعادة الحكم بعد ثلث قرن؟ وما من حاكم إلا ويرمِّد بلده إذا خطر للناس خاطر آخر. أليس هو من غمَر الأرض وعمّر البنيان ونشَر العلوم وبسَط الخير وأقفَل السجون وبسَط الحرية وأرسى العدالة؟

عالمان: الأول، صنعه شعبه. وشعبه مؤلَّف من أناس عاديين، يبنون الجامعات والمصانع والسيارات والجرارات الفلاحية والطائرات. والثاني، مؤلف من شعب عظيم، يعبّئ الطائرات براميل متفجّرة، أو “طناجر ضغط”، أو يركبها ليضرب بها أبراج الناس. يجب أن نُعيد النظر في الخديعة الكبرى: الشعب العظيم.

وأن نقول له ارفع رأسك في وجه الجهل لأنه أظلم وأحلك وأقسى من الاستعمار. وأن نقول له إن الاستبداد لا يفضي إلا إلى ما أفضى إليه: يسجنك إلى أن تتذكّر الحرية، وعندها، يَرميك في البحار أنت وأطفالك على طوافات، فيما أنت تعتبر الغرق أكثر رحمة من اليابسة. هذه اليابسة.

اليابسة الأخرى، عبر المتوسط، حُلم. حتى في اليونان التي ظلّت تسكر إلى أن أفاقت على فاقَتها، وأدركت أن آخر الرقص حنجلة. أي تعب وترنُّح ووقوع. “جيز الحصايد”، كان فيلمون وهبة يسمّي صرّار دو لافونتين، الذي استعار من عبدالله بن المقفع، الذي ضُرِب عنقه، بتهمة ما بعد التفكير، أي التنوير. الخطيئة الأصلية، المعرفة.

لا نريد أن ندفع لبنان إلى قوارب المتوسط مرة أخرى. لقد أدّى ضريبته عن الجميع. وشكراً لإيضاح الدكتور محمد جواد ظريف بعدم رغبة إيران في التدخل في شؤون لبنان. اللعنة على سوء الظنّ يا مولاي، فهو إثْم. وقد ذكَّرتني مرة أخرى بحكاية أوكتافيو باث عن الفلاح المكسيكي الذي شاهَد ببغاء يتكلّم، فاقترب منه وانحنى قائلاً: عذراً يا صاحب السعادة، كنت أعتقد أنك طير!

وأهلاً بك على هذه الضفة من خلجان المتوسط ترثي لحالنا، لكنك تترفّع عن التدخّل. ذات يوم يا مولانا كنا جزءاً من حضارة هذا الشطّ. ركب ألفونس دو لامارتين الباخرة من مرسيليا وجاء يجعلنا جزءاً من “تأمّلاته” في أحوال الكوكب وأسراره وجمالاته. وتكريماً لزيارة الكونت الشاعر سمّينا على اسمه وادياً جميلاً: وادي لامارتين. أيها الكونت الحزين، لقد صار واديكَ الأخضر مكبّاً لقمامات لبنان، بجميع طيفها وألوانها وسائر مخلّفيها.

مهلاً. الأسبوع الماضي دشَّنت مصر الشق الثاني من القناة، التي اختصرت بحار العالم. بدا الإنجاز خافتاً في عالم عربي لم يعرف سوى قنوات الدم وأنهر اليأس منذ عقود. بل إن البعض لم يصدّق حصوله، تماماً كما يرفض أن يصدّق الرحلة إلى القمر. يفضّل على ذلك أخبار الزير والبيوت المسكونة. وهناك 350 ألف برّاج مصري يقرأون لأهل الأرياف بُخوتهم وارتباط حليب المزارع بحركة المجرّات. ولا أدري لماذا لا يكفّ العلماء عن اكتشاف المزيد منها. نحن لم نبلغ بعد عصر غاليليو ونيوتن. وما الفائدة في أي حال، إذا كان سيحدث للعلوم ما يحدث للإنترنت التي تُستخدم لصوَر الرؤوس المقطوعة والرجال المحروقين في أقفاص.

ذهبَ الكاهن يُعطي دوق فالنسيا المسْحة الأخيرة في القرن التاسع عشر. وطَرح عليه سؤال النزْع الأخير: “سيدي الدوق، هل أنت مستعد لمسامحة جميع أعدائك”؟ جواب: “ولكن أيها الأب الكاهن، لا أعداء لي. لقد قتلتهم جميعاً”. ثمانون قتيلاً و200 مُصاب في تفجير “مدينة الصدر” الأسبوع الماضي. في ليبيا لم يعد أحد يُحصي الموتى. في سوريا قامت التظاهرات من أجل اغتيال ضابط على يد ضابط آخر، كان على عجل مثل طارق تميم وهشام ضو. لم يحظَ موت 300 ألف إنسان بتظاهرة واحدة. هناك نوعان من القتل “يوميات الموت العادي” كما في عنوان وضاح شرارة عن قَتلى لبنان الكبار، وهناك القتل المدوّي. خلاف على مرور، يجرؤ فيه الضحية على ادّعاء الأفضلية وقانون الأولوية.

هذه بلاد المواكب وما يسمّيه الساخر عماد موسى “الزجاج المفيَّم”. عالمان. بداية هجرتنا إلى لندن 1978، شاهدنا، زوجتي وأنا، سيارة رائعة إلى جانبنا. كان نصفها الأعلى زجاجياً. ثم انتبهنا إلى أن على مقدّم سطحها الأمامي تاجاً. ثم انتبهنا، والتاج يتجاوزنا، أن السيدة الجالسة في المقعد الخلفي تعتمر قبعة مألوفة. وكانت هي. إليزابيت الثانية.

يا صاحب الوادي، صعبة هي المسألة. الإسبان يأكلون نصف الحروف لكنهم يضعون علامَتي تعجّب بدل الواحدة. أولى قبل الكلمة، وثانية بعدها. كارامبا. وشرْحها، يا إلهي، ماذا حدث. وشرْحها، يا إلهي ما هذا. ما أصعب أن تُولد في عصر وتَشيخ على أعتاب الزمان. يوم كنت صغيراً أخذني جدّي معه إلى ملعب “الحكمة” لكي نستمع إلى خطاب وزير التربية. لم أفهم الكثير لكن لم أنسَ صورة شارل حلو بالطقم الأبيض. شارل حلو ومعهد الحكمة. وفي مصر كان وزراء التربية سعد زغلول وعبدالرزاق السنهوري وطه حسين وعبدالخالق حسونة وباشاوات العلوم والمعارف والتربية. لم يُشاهَد أحد منهم في الشارع. قضاياهم كانت في الكتب. أساتذة الجيل كانوا يُسمون في حياتهم. أساتذة الأجيال في ذكراهم. لم ينزلوا إلى الشارع حتى لركوب حافلة. التربية هي الصرح. هي النموذج. هي أهم جامعات الشرق. الشارع لوثة.