Site icon IMLebanon

البريستول بعد إقفاله: تاريخ وطني وسياسي وذكريات أفراح وأتراح

 

… وهو اسم لفندق من أعتق وأعرق فنادق بيروت إذ يعود انشاؤه إلى أوائل الخمسينيات من القرن المنصرم، وتطورت تسميته لتصبح شاملة لمنطقة بأسرها تقع بين المنطقة الأكبر والأشمل: الحمرا، وهي التي تطورت في ذلك الزمان من منطقة زراعية وسكنية متواضعة، لتصبح مع الوقت المركز الحيوي الأول في بيروت بطابع تجاري وسياحي ومؤسساتي ومصرفي، يزهو به لبنان، ويستقطب إليه ملايين الزوار والسيّاح العرب والأجانب، ولينتقل اسمه «الحمرا» إلى تسميته لعدد من المناطق والشوارع في الشرق الأوسط، تستدرج بها ألقا وأناقة ونجاحا مستمدا مما كان «لحمرا» بيروت، من زهو وشهرة وبريق.

 

البريستول، فنذق أشيد في صلب العاصمة وفي عزّ ما كان لها من أثر وانتشار في العالم العربي، بل وفي العالم كله، وقد مكنته الأوضاع والظروف التي سادت البلاد من أن يكون مركزا أساسيا من مراكز النشاط الإجتماعي والسياسي والتاريخي، فشهدت قاعاته الفسيحة، لقاءات مفصلية من لقاءات الاستنهاض اللبناني، خاصة منها تلك التي حصلت بعد إطباق يد النظام السوري على الحياة اللبنانية عموما، بما فيها السيادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث أصبحت الدولة اللبنانية ورجالاتها من معظم الفئات والدرجات والإنتماءات في نطاق السيطرة الكاملة للنظام السوري، فعقدت في البريستول، مجموعة من اللقاءات التحضيرية والاستنهاضية، ضمت إليها معظم الفاعليات الوطنية والسياسية والاجتماعية والشعبية، كما ضمت إليها أركان الممثليات الدينية الرئيسية، وعرفت تلك اللقاءات بتسمية «لقاءات البريستول»، التي أطلقت صرخات ونداءات وطنية شاملة المدى والأثر على مستوى لبنان بأسره، وبكل انتماءاته الطائفية والمذهبية والمناطقية، وكانت أعمدتها الوطنية الشاملة، المنطلق الذي تكونت منه لاحقا حركة الرابع عشر من آذار التي نشأت عقب عملية الاغتيال الأثيم التي طاولت شهيد البلاد وركيزة انطلاقتها الحديثة، الرئيس رفيق الحريري، فكانت البنيان السياسي الوطني الشامل والمتين الذي قاوم الحركة المناهضة والمتشبثة آنذاك ببيانات ركائز حكم الوصاية السورية التي أفلحت حركة الرابع عشر من آذار ولواحقها في إخراج القوات السورية وأعمدة حكم النظام السوري من لبنان، وبقيت خطوطها وخيوطها الفاعلة، ذات أثر عميق في مجمل أجواء الخط الوطني في لبنان، وهو خط لم يستمر على تماسكه وفاعلياته طويلا، إذ أفلحت أكثر من جهة وأكثر من جهد وأكثر من مصلحة تآمرية، في فرض وجوده وأثره إلى الحد الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه في هذه الايام العصيبة التي تداخل فيها الفساد والمحاصصة والزبائنية وأعمال السرقة الموصوفة والنهب المنظم الذي طاول الدولة على مدى سنوات غابرة أدّت إلى حالات الانحطاط والانهيار الاقتصادي والمالي الشامل التي بتنا في صميم أوحالها وإفلاساتها ووقائعها المرّة وآثارها المدمرة على البلاد والعباد، وجاءت طامّة الكورونا التي طاولت العالم بأسره في الأشهر الأخيرة، لتزيدنا سوءا على سوء في الأحوال ولتلقي على بلادنا ظلالا حادة من الظلام الحالك والنفسي في هذه الزاوية بالغوص في بعض النواحي الشخصية المرتبطة بهذا الفندق الذي أقفل ولو إلى حين.

 

البريستول أقفل… وأقفلت معه جملة من الأوضاع والأحوال… والذكريات. فهذا الفندق القديم – العريق… يقبع مكتبي كمحام في جوار قريب منه، سهّل علي استقبال الكثيرين من موكليّ المميزين في وطنهم العربي والكبار في عالم المحاماة والتحكيم الإقليمي والدولي، وكنت استضيفهم في هذا الفندق المجاور فأحظى منهم بالشكر والإشادة بخدمات هذا الفندق وعراقته.

 

وهذا الفندق… تمت فيه حفلة زواج ابنتي «غيدا» في ظروف مأساوية، فمنذ ما يزيد على العشرين عاما لم تكن حفلة زواجها فيه حفلة زواج عادية، بل كانت مناسبة أصرت عليها زوجتي المتوفاة، جمعت إليها فرح الزواج بمأساة المرض اللعين الذي طاول زوجتي وزميلتي المرحومة أمل، حيث كانت تلك الليلة الاحتفالية، حفلة وداع لها من الأهل والأصدقاء والزملاء والمدعوين جميعا، حيث أننا في اليوم التالي أدخلناها إلى المستشفى، حيث أمضت فيه بعضا من أيامها الأخيرة وكان احتفالا وداعيا، ما زالت انطباعاته المؤثرة في صميم مشاعري وفي أذهان «الحضور المحتفلين».

 

وبعد، لقد اجتاحت الأزمات الاقتصادية والسياسية البلاد والعباد وانقضّت على هذا البلد المنكوب وطنا ودولة، وتكاد أن تتركه أثرا بعد عين، ولحقتها فاجعة الكورونا الدولية التي ما زلنا في صراع وجودي معها حتى الآن، وقد كان ذلك كافيا للإطباق على مقومات البلاد جميعا، ووصلت الانحدارات العامودية إلى مؤسساتنا الهامة وفي طليعتها كانت قبل أيام، البريستول، حيث أعلن عن إقفاله وكأنما يقفل على اللبنانيين عموما والبيروتيين خصوصا، نافذة هي من أهم النوافذ والمنافذ التي كانت تسمح لهم ببعض الانظار وبعض الأنفاس وبعض التطلعات إلى حياة كريمة متميزة.

 

البريستول، ستعود مع عودة الأيام إلى طبيعتها.

 

كلنا بانتظار… عودتنا إلى الحياة.