ما جرى في الضاحية الجنوبية قبل أيام شبيه بما نراه في معسكرات الاعتقال، والسجون، وما نشاهده أحياناً من أفلام تروي «انتفاضة» السجناء، أو ما يمر بنا على الشاشات، من ممارسات شبّيحة الأسد، أو في مراكز التعذيب، وما نقرأ أو نسمع من الناجين من هذه المراكز وهم يروون جلجلاتهم في أقبية المعتقلات، وما يرتكب جنود الأسد من جرائم، وإذلال، وإخضاع، تصل إلى حد البربرية..
أمّا المشترك في هذه الأمكنة الرهيبة «المتشابهة»، فهو كيف يُمارس هؤلاء الجنود والمخابرات والميليشيات كل الوسائل، لقتل الروح، والعقل، وسحق الإنسانية، في هؤلاء المعتقلين. إنها أمكنة صناعة الخضوع، وتدمير الذوات، وانتهاك ما تبقّى من كرامات، ومشاعر إنسانية.. أي إفراغ الإنسان من كل وعي بحضوره ككائن. وهذه الظواهر تتجاوز الأديان والأعراف والحقوق الدنيا والطوائف، والايديولوجيات: إلغاء إنسانية الإنسان بأيدي مَن فقدوا إنسانيتهم.
القصة المعروفة، أن جمهرة من الفقراء والمحرومين في الضاحية احتجّوا على إلغاء بسطاتهم، ومصادر رزقهم فصرخوا: لا! إنها «انتفاضة الصرخة»، والوجع واليأس، والخوف، وعلى مَن اعتبروهم مسؤولين عن ذلك. ولأن «حزب الله»، هو الآمر الناهي، بقدرته الإلهية غير المردودة، فقد صرخ الناس في وجوههم. لكن المسألة «الكبرى»، أن هؤلاء المواطنين اللبنانيين، أسرى الكانتون، تخطوا «الخطوط الحمر»، بتوجيههم انتقادات مباشرة طاولت الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله. أفْ! أتمسّون الذات «الإلهية»، أتجدّفون، أتكفرون بصرخاتكم. ارتكبوا «الكبيرة» التي تودي بأهلها إلى النار الأبدية، وإلى المعصية، وإلى التعرُّض للمقدّس، والمحرّم، والسماوي. أكانت مفاجأة؟ نعم! مفاجأة لكن من طرف واحد، هي التجرّؤ على حزب انتحل اسم «الله»، وعلى رمزه، فوق كل الرموز، الدنيوية وأعلى منها… وإذا راجعنا قليلاً الوقائع يمكننا تقسيمها إلى ثلاثة:
المشهد الأول، عملية الاحتجاج العفوية وما وصلنا من تفاصيلها؛ أغلب الصارخين من نساءٌ صبايا وشيوخ، وشبان، فجّروا بما يكتنز فيهم من «مسكوت»، ومختلَج، ومرفوض صمتاً في دواخلهم: لم يوفّروا السيد حسن، والأهم أنهم أظهروا «ممانعتهم» لسَوق هذا الحزب للشباب الشيعي إلى سوريا للدفاع عن نظام بشار الأسد، ذهبوا زمراً وعادوا نعوشاً. «بتروحوا تدافعوا عن بشار في سوريا (…) لعنة الله عليكم وعليه» قالها أحد المنتفضين. استباحوا «مخططات» الحزب المقدّسة، وانصياعه لإيران، وسفك دماء السوريين، وتقديم الشبان ذبائح وضحايا، غير عابئين بأرواحهم، ولا بشبابهم، ولا بأهلهم: صدرت فرمانات إيران بوجوب الذهاب إلى سوريا، فلبَّى الحزب النداء عَجولاً!
] صور متشابهة
المشهد الثاني: الثلاثة الذين كانوا الأعلى صرخة، وتعبيراً عن الغضب، نراهم على شاشة «المنار» حاملين صوراً مستنسخة للسيد حسن، يعلنون «توبتهم»، طالبين «المغفرة» على ما ارتكبوه. والجامع ليست صور نصرالله بل العبارات الواحدة التي أُملِيَت عليهم، ونطقوا بها ومجّدوها تقبيل حذاء السيد، وغبرة حذائه، ولون حذائه، ورائحة حذائه، وشكل حذائه: فالحذاء دخل عالم الترميز والمجاز والإيحاء، فحذاء السيّد مقدَّس، ومَن يقبّله، «تُغفر له خطاياه» المميتة، وكفره، وإلحاده. لم يقولوا نقبِّل أطراف ثوبه، أو جبينه، أو يديه، أو صوته، بل حُددت لهم المنطقة السفلية: الحذاء، الذي ينتعله السيد، وحتى ربما الخطى التي يخطوها؛ فهم أكثر دونية من أن يدركوا اليدين، أو الذراعين، أو الركبتين… فهذه المناطق في الجسم، لا يقرَبُها إلا المؤمنون بربهم وبالآخرة، والحشر والنشر، والناسوت، والملكوت. إذاً، لا ترفعوا أفواهكم صعوداً، بل نزولاً، إلى الحذاء وغبرته، والتراب الذي يمشي عليه…
المشهد الثالث: تسجيل لأحد هؤلاء المستغفرين، وهو الشاب علي شمص، يروي فيه، كيف جاء «مسلحو الحزب، وأمروهم على الوقوف (كالمحكومين بالإعدام)، والنطق بما نطقوا به. بل وكيف، راحوا يهددونه، ويضطهدون أهله، من زوجته ووالدته، وأخوته، وأعمامه.. ويتّهمونه بأبشع التُهم، وربما وصل الأمر إلى اتهامهم بالعمالة لإسرائيل! لم يذكر علي شمص الصبابيط هنا، ولكن كشف عن خوفه، ورعبه. شاهدت إنساناً تحوَّل كتلة من الخراب النفسي، تكاد تكون بلا روح. نبرته، كأنّها طالعة من الغيوب. فإلى مَن يلجأ: الدولة لم تُحرِّك ساكناً. وأقرباؤه فرائس سهلة لصيد قناصّة الحزب، وهو بات طريداً، مطلوباً، خارجاً على «ناسوت» الحزب، مرمياً خارج ملكوته، وحيداً، ذليلاً. يستعطف سماحة السيد لردّ الأذيّة عنه (!) كأنه صوت بلا روح، أو روح تقدّمت جسدها إلى التفكّك، فبات الموت هاجسها: ممَّن؟ من حزب لطالما انخرط فيه علي ووالاه، وأخلص له، وأحب قائده. كل ذلك جرى محوه من «لوح» «الحساب الأخير»… أما الصبيّتان الشجاعتان، اللتان تشبهان انطيغون في المسرحيات الاغريقية، والتي تمرّدت على القوانين وعلى القائد – الإله اغامنون، وكان نصيبها الموت طبعاً! إنها لحظة الخروج من الخنوع، والانصياع، والعار، إلى لحظة الحرية، وإن كانت على مرمى العقاب، والموت.
] الطغاة
كل هذه المشاهد، سبق أن رأينا مثلها عند الطغاة الكبار، كآل الاسد: نتذكّر صورة مماثلة: شبّيح من «جيش» بشار، يصوّب البندقية إلى رأس أحد المعتقلين ويأمره «يا كلب، قل «بشار أكبر» (على إيقاع «الله أكبر»)؛ «قل إن سيادة الرئيس تاج راسك»… وردَّد هذا المسكين الأعزل ما أُمِرَ به، فكوفئ بالركل، واللبيط، وضرب الأحذية، والقبضات، ثمّ… أُعدم برشق من الرصاص: ما الفارق بين هذا المشهد وبين ما رأينا في المشهد الثلاثي؟ المستغفرون يعلنون إيمانهم، وولاءهم، لا لحسن نصرالله وحده.. بل لحذائه، وربما كلساته، ونعله. وروى بعض الخارجين من معتقلات الأسد أن الشبّيحة، كانوا يجبرونهم على تقبيل أحذيتهم، ومسحها بألسنتهم، ومحياهم، وأنوفهم… مشهد آخر رواه أحد الناجين من معسكرات الاعتقال الأسدية. وها هو، علي عمار (نائب من نواب الحزب)، يبدو أنه، طوعاً ومن باب التزلُّف، تحوَّل إلى مرجع في تقبيل حذاء السيد، ونعله، ويشرح كيف أخذته «الجلالة»، عندما لامست شفتاه حذاء السيد، فانتقل على أجنحة الصباط، إلى عالم الناسوت ثم الملكوت، قبَّل حذاء السيد مرتين: وها هو نائب ومرشح دائم على لوائح الحزب.
كأنها ثقافة الأحذية انتقلت من المصانع، ومن أيدي «الكندرجية»، ومن المحلات، والمعارض، إلى رتب أعلى من أصحابها! هناك صباط برتبة ناسوتية، وآخر برتبة دنيوية. واحد يفرد جناحيه ويطير إلى السماوات الألف، وآخر ينتعله الإنسان العادي الآدمي: من الميتافيزيقيا إلى الفيزيقياء، ومن الرمز العالي، إلى الوظيفة اليومية. فطوبى للأول، وليكتسب الأسماء الفضلى، الاثيرية، فهي ثقافة روحية، وزمنية، وحضارة دينية، وطائفية وسياسية، وفلسفية، وما ورائيه.
صحيح أن الحذاء المذكور اكتسب مثل هذه الهالة، لكن، عند آخرين من الممانعين حلّ محل الصوت، والقبضة، والسيف والمسدس، والصرخة السياسية، والتهديد «صباطي على المحكمة الدولية!»، «صباطي على الأمم المتحدة». صار الحذاء طريقة تفكير، وأداة لغوية، وسيميائية، وانتروبولوجية، وبنيوية، وبلاغية، بمستوى مطرقة القاضي، وقلم الصحافي، وصوت السياسي! فيا لهذا الزمن الجميل، زمن الأحذية التي صارت تختزل بعض أصحابها.. بل أكثر صار الصباط مصدر قوة، وسلطة، يُرفع للتهديد كما رفع الرئيس السوفياتي نيكيتا غروتشوف خروتشوف حذاءه في الأمم المتحدة (أثناء الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 902 التي عُقدت في نيويورك يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1960)، وهدّد به الولايات المتحدة… وللتحية، والتنكيت، والقراءة والكتابة والغناء.
لا نظن أن ما جرى في ذلك اليوم الاحتجاجي المشهود يمحوه استدعاء أبطاله، للاعتذار عن مواقفهم، ولا في الحملة «الميليشيوية» التي شُنَّت عليهم، ولا في التهديدات التي وُجِّهت ربما إلى كل مَن هم من عائلة شمص وأخواتها؛ لا تنتهي الأمور هنا. فالذاكرة ليست لوحاً يُكتب عليه بالطبشور ثم يُمحى. فما يسمُى الكانتون المذهبي كان بالفعل قلعة للحزب. كان أهلوه يكنّون الإعجاب، والإكبار، حتى التقديس لهؤلاء «المقاومين» الذين حرّروا الجنوب، وصار بإمكانهم «هزم إسرائيل»… وربما العالم كله.
] المنقذ
كان الولاء للسيد حسن نصرالله أكبر من ولاء. والإخلاص له أكثر من أخلاص. قومه عانوا ما عانوا في حروب الحزب ومآسيها، ومن حصار، وقصف إسرائيلي، وتهجير. كل ذلك كان على قلوبهم عسلاً. فالسيد هو منقذنا، وقائدنا، وأبونا، وأُمنا، ومستقبلنا، ومجدنا، وفخرنا. غفروا له كل تناقضاته، وغفروا لشبّيحته كل سلوكهم الوحشي الفاسد. كرمى له. لكن، شيئاً فشيئاً، بدأت تتكوّن في نفوسهم مشاعر أخرى، بعدما راح الحزب إلى سوريا، وبدأت النعوش بالألوف تتدفق… شبان الكانتون الكبير للحزب من الجنوب إلى البقاع، يذهبون مليئين بالنضارة والحيوية ويعودون… موتى، ذبائح جامدة من أجل إيران. ثم، اكتشفوا أن المخلّص وحزبه لم يُحسِّنا لا ظروفهم المعيشية، ولا الاجتماعية، خصوصاً الفقراء والمعدمين منهم، في الوقت الذي باتت الرفاهية، وأشكال الثراء تظهر عند من كانوا يدورون في الفلك الحزبي.. هذه المشاعر بدأت تتراكم، تتراكم حتى انفجرت في الضاحية، في وجه الحزب وفاسديه وأمينه العام… هنا بالذات عرف كثيرهم، أن المنقذ لم ينقذهم من شيء. لكن في الوقت نفسه، كمنت كل الاختلاجات في دواخلهم خوفاً: إذاً، انتقال من حالة الدهشة والولاء المطلق، إلى حالة الخوف. وهكذا تُبنى المواقف المعارِضة بصمت الشرايين، والجلود والعيون… لكن، وراء كل ذلك همهمات هنا، همسات هناك… بأن الأوضاع باتت لا تُحتمل، لكن من يجرؤ على الصرخة الأولى. والصرخة الأولى مهمّة: الخروج إلى فضاء الحرية. إلى فضاء الوعي. إلى رحابة الوعي. حلَّ الخوف من حسن نصرالله وميليشياته محل الموالاة… حلَّ الارتياب محل «عبادة الشخص»، حلَّ التململ من الأوضاع محلّ التحمُّل، حلَّ التمرُّد محلّ القبول. حلَّ رفع الرأس عالياً محل الخضوع. فالرجل، ككل الرجال ليس لا قدّيساً ولا وليّاً… ولا منقذاً. إنه «حاكم» بأمره، ونجن أُسقط في أيدينا. وبحسب استطلاعات بعض المواقع، فإن خطب السيد لم تعد، كما من قبل، تجتذب كل الناس… بل تضاءلت النسب. كأنهم اعتادوا لغته، وتقلباته، وانقلاباته. وكل هذه الصفات من قسمات «حكم الرجل الواحد»: إذاً، ذكرهم ذلك كيف تعامل بشار مع ثوار درعا في بداية الثورة السورية. ذكرهم بوالده حافظ. وبصدام. والقذافي. وعلي صالح. أيكون السيد مثلهم؛ ولِمَ لا! أيكون وسيلة لتقديم دماء أولادنا، كرمى لخامنئي؛… أيكون وسيلة لتقديم الجنوب لنظام الملالي. إذاً، أين المقاوِم القديم! بح! أين المنتصر كل يوم؟ بح! (ألم يعد صفر اليدين من سوريا، رغم كل الخسائر البشرية التي لحقت بأبنائنا!؟..)
سقطت الأسطورة؛ ربما جزء كبير منها. هل ذابت هالة التقديس كالشمع؟ ربما جزء كبير منها، هل تحطّمت مشاعر الإنبهار للرجل «الذي لا يُقهر»، لرجل «الله» على الأرض؟ ربما جزء كبير منها، واحد يطفو كما ظهر في أحداث الضاحية، وآخر في الداخل ينتظر شرارة من هنا، أو عود كبريت لينفجر، وآخر ما زال مطوياً. ومخدراً في اللاوعي.
لكن مَن عاش مسار الميليشيات في لبنان منذ 1975، يعرف أن الأمور كانت تتدرج بمثل هذا الإيقاع، حتى اللحظة، التي يبدأ الناس بالمطالبة بمنقذ ينقذهم من «منقذيهم»، وببطل ينتصر على أبطالهم… وقدّيس يهزم قدّيسيهم!
فليراجع «حزب الله» صعود… وسقوط الميليشيات في لبنان، ليعرف أن الأمور تبدأ كما بدأت في ساحات الضاحية: صوت فردي شجاع… يتحوّل إلى أصوات جماعية، فإجماعية… فخروج من الخضوع، والطاعة، والتخدير، والقبول…
هنا بالذات… تبدأ تماثيل الطغاة بالتفكُّك قطعة قطعة، وتتحوّل «عبادة الشخص» إلى نوع من اللعنة!
إنها فعلاً البدايات! ولهذا نذكّر عتاولة الحزب بأن الثورة التونسية هبَّت من خلال موقف احتجاجي لبائع متجوّل أحرق نفسه… لتلقّيه صفعة من شرطية.
ونذكّر هؤلاء «القدّيسين»، بأن الثورة السورية اندلعت احتجاجاً على تعذيب المخابرات بضعة أطفال وإهانة أهلهم. ونذكّر أبطال المقاومة أن الثورة المصرية بدأت باغتيال خالد يوسف في بور سعيد. ونذكّر «أبناء» خامنئي الأبرار أن ثورة الأرز اشتعلت باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وتمكّنت من طرد جيش الوصاية السورية (حليف إيران والحزب ما شاء الله).
كل شيء، لكي يتفجّر، يحتاج إلى شرارة أحياناً، أو إلى عود كبريت، أو إلى صرخة، أو إلى إهانة، أو ظلم! وهذا ما جرى في ضاحية الكانتون الإيراني!