دخلت الحكومة سباق رمضان التلفزيوني عبر مسلسل اجتماعات الموازنة التي ما ان تظهر بوادر حلحلتها حتى تعود لنقطة الانطلاق وتطفو الخلافات لتمحو ما تم الاتفاق عليه! لكنه مسلسل ممل يُظهر ضعفا في الحبكة حيث علق الكاتب ولم يعد يجد خيوط النهاية المناسبة، اما الإخراج فليس بحال أفضل، اذ ان التناقض بين الوزراء خرج الى العلن، والتخبط هو العنوان العريض للأحداث!
الا ان نتيجة هذا المسلسل الطويل لا تنحسر بانتقادات المشاهدين ومقاطعة الدعايات وسقوطه وممثليه في خانة الفاشلين، لان مصير لبنان وشعبه الاقتصادي على المحك هنا! فعجز حكومة الوحدة الوطنية، كما اشيع لها، عن التوافق على الخطوط العريضة لموازنة ينتظرها الخارج قبل الداخل ليبني على اساسها مسار أموال سيدر من جهة ومصير الاقتصاد الوطني من جهة اخرى، إنما يدل ان لا وفاق ولا وحدة وطنية حول المصلحة العليا، بل حول ملفات ضيّقة ومصالح خاصة ضمن صفقات عامة.
في حين تبنت كل الأطراف شعار مكافحة الفساد ووقف الهدر، يتفاجأ المواطن والموظف البسيط انه هو محور الهدر طوال هذه السنوات، وان اعادة بناء مالية الدولة يقع على عاتقه، وان مستحقاته هي المسؤولة عن عجز الدولة، وما الى هنالك من دوران فارغ حول الأسباب الحقيقية لإفلاس الدولة ومواطنيها على حد سواء دون مقاربة المشكلة الحقيقية بشكل مباشر… فلم نسمع نقدا ذاتيا لطقم سياسي بكل افرقائه كان المسؤول الاول والأخير عن الكارثة الاقتصادية الواقع بها لبنان بسبب سوء ادارته وعشوائية قراراته وخدمته لمصالحه الخاصة وحساباته الانتخابية على حساب الاقتصاد الوطني، فما تم إعطاؤه من خلال سلسلة الرتب والرواتب، والتي اقرت في حين الدولة كانت واقعة تحت عبء الديون والقطاع الخاص يئن من أزمة خانقة، هو ما تسترده هذه الدولة عينها اليوم تحت شعار خفض الإنفاق. الا ان أيا من مصادر الهدر الكبرى الواقعة في قبضة الفساد لم يتم التطرق اليها بجدية، فأين آليات التلزيم المتهربة من مؤسسات الرقابة والخاضعة لقوانين المحاصصة؟ وأين التغاضي الضريبي على الأملاك البحرية والودائع في المصارف الداخلية والخارجية أسوة بكل الدول المحترمة؟ وماذا عن التهريب البري والبحري والجوي وأين الرسوم والضرائب؟ اما حصة الدولة من مياهها التي تتكبد مصاريف شبكاتها ليتم بيعها من اصحاب الصهاريج فليست قليلة، أضف الى ذلك المحروقات التابعة للقطاع الخاص المتحكم بأسعارها تحت سيف قطع الكهرباء وتجاوب البواخر ام لا.
اما النقطة الجوهرية لكل ما سلف والمستقبل القريب والبعيد هو تحرير القضاء والأجهزة الرقابية وديوان المحاسبة من قبضة السياسة ليتسنى لها القيام بدورها ووضع حد للصفقات الماضية والمقبلة من تأهيل شبكات ومرافق رسمية، كهرباء ونفايات واستخراج غاز ونفط… والتي نهبت الدولة على مر السنين، اضافة الى محاسبة المسؤولين عن استباحتهم للمال العام من باب السرقة او حتى الاستغلال والإسراف، والذي يكبد الخزينة العامة ما هو كفيل بسد العجز وأحيانا اكثر، دون ان تضطر الى المس بملاليم مستحقات الموظفين، عسكريين كانوا ام لا، كاسرة بذلك فكرة الدولة التي تقتص من مواطنيها دون ان تخدمهم او تؤمن لهم ادنى حقوقهم!
على أمل ان ينتهي مسلسل الموازنة السمج بأقرب وقت ليتسنى للوزراء الانصراف لمسؤولياتهم الكثيرة والعمل الجدي على إصلاحات حقيقية تخرج لبنان من مأزق الدولة المارقة والفاشلة والمفلسة… الذي ينتظره إذا ما استمر الأداء السياسي على هذا الحال، بدلا من التلهي بشد حبال الموازنة كل الى صوبه لحماية جماعته وكأننا قطعان ولسنا شعبا واحداً يعيش في وطن ويربطهم مصير واحد!