المشروع عالق بين التسوية المنتظرة والتشريع المأمول
مناقشة الموازنة أفضل من البطالة!
طالما أن وزير المالية احترم قانون المحاسبة العمومية وأرسل مشروع الموازنة قبل يوم من الحد الأقصىى للمهلة القانونية المحددة في أول أيلول، فإن مجلس الوزراء هو الذي يتحمل مسؤولية تأخير الموازنة حتى اليوم، حيث كان ملزماً إقرارها وتحويلها إلى مجلس النواب قبل 15 تشرين الأول. ولكن، إذ يُلاحظ ان الوزير علي حسن خليل اكتفى بإرسال نسخة من الموازنة إلى رئيس مجلس الوزراء فقط، بدلاً من إرسال نسخ إلى كل الوزراء، كما جرت العادة، فذلك يعني أنه كان يعرف ضمناً أن زمن إقرار الموازنة لم يحن بعد، وإن حرص على القيام بالموجب الدستوري القاضي بإرسال الموازنة إلى الحكومة وفق الأصول.
هذا يقود إلى سؤال أساسي: لماذا لم يطرح رئيس الحكومة مشروع الموازنة على جدول الأعمال منذ ذلك الحين، وانتظر حتى 16 نيسان الحالي ليفعل ما يمليه عليه واجبه؟ لا أحد يملك الجواب الشافي، لكن الأكيد أن الرئيس تمام سلام كان يمكنه نفض يديه من تحمل مسؤولية خرق القانون، كما فعل خليل، بمجرد تخصيصه جلسة واحدة للموازنة.. لكنه لم يفعل، فتلقى في صدره، دستورياً، أخطاء غيره من رافضي إقرار الموازنة أو حتى طرحها.
بشيء من التحليل والتهكم، يقول مصدر معني إنه «طالما أن تطبيق القوانين والدستور موضة تخضع لحسابات المصالح بعيداً عن منطق المؤسسات، فإن الموازنة لم تكن موضة الموسم، تماماً كما لم تكن موضة السنوات العشر الأخيرة. عندما توجب إقرار موازنة العام 2015 في نهاية العام الماضي، كان السياسيون منهمكين بآخر صيحات الموضة حينها، أي قانون التمديد للمجلس النيابي. بعده عادوا إلى قانون الانتخاب حرجاً، ثم انتقلوا إلى مشروع «سلسلة الرتب والرواتب»، مع معرفتهم أن لا هذا ولا ذاك سيمر.
البراءة أولاً
ما إن بدأ العقد العادي الأول لمجلس النواب، حتى صارت الأولوية للتشريع، على الأقل بالنسبة لرئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي سعى إلى البحث عن قوانين يمكن تصنيفها في خانة تشريع الضرورة، والموازنة أبرزها. فيما بقيت أولوية «المستقبل» متأرجحة بين القضاء على «سلسلة الرتب الرواتب» أو مقايضتها بصك براءة عن الـ11 مليار دولار. ولهذه الغاية، تلقف الرئيس فؤاد السنيورة إدخال إيرادات «السلسلة» في مشروع الموازنة، ليطالب بإدخال نفقاتها أيضاً في المشروع. علماً أن اقتراح النائب جمال الجراح في 17 آذار الماضي (بعد مقاطعة جلسة اللجان المشتركة التي كانت مخصصة لدرس السلسلة) إقرار الموازنة وإقرار قطع حساب العام 2013، «بالطريقة التي دأب المجلس على اتباعها، أي مع تحفظ ديوان المحاسبة»، جاء ليؤكد شكوك المرتابين بخلفية الحماسة «المستقبلية». فإقرار قطع حساب العام 2013 يعني عملياً مشاركة الحكومة الحالية في الخطأ، وإقرار حسابات غير دقيقة، تماماً كما كان يجري سابقاً. وبالرغم من أن البعض يعتبر أن إقرار قطع حساب 2013 ممكن بدون الحاجة إلى الرجوع إلى حساب السنوات التي سبقت، انطلاقاً من أن قطع الحساب هو «بيان مالي يتعلق بالإنفاق والصرف خلال عام واحد»، إلا أن هذا التفسير لا يبدو دقيقاً بالنسبة لوزارة المالية التي تعتبر أن قطع الحساب الدقيق هو الذي يبنى على ما بقي من السنة التي سبقت.
موازنة مستحيلة
ليس هذا النقاش الدائر حالياً. وإذا كان وزير المالية لا يزال يرى أن إمكانية الخرق متاحة، وبالتالي إقرار الموازنة ممكن، فإن أحداً من المتابعين لا يجاري خليل في تفاؤله. لا السنيورة مستعد لإقرار الموازنة أو «السلسلة» أو كليهما من دون إيجاد حل لمسألة الـ11 ملياراً، ولا «التيار الوطني الحر» مستعد للسير في أي موازنة قبل إنجاز الحسابات المالية وتصحيحها منذ العام 1994 حتى 2013، ولا «الكتائب» مستعد لمجرد النقاش في حضور أي جلسة تشريعية… يبقى الرئيس نبيه بري وحيداً في مركب الساعين إلى إقرار الموازنة، أولاً لأن إقرارها يشكل إنجازاً نوعياً لوزارة المال، وثانياً لأن مواقف الكتل المعترضة تؤكد أن أبواب التشريع لن تفتح، ما لم تكن قوانين الانتخابات أو الموازنة أو السلسلة من ضيوف الشرف.
عندما وجد الرئيس تمام سلام أن الخلافات بشأن الموازنة أكبر من ان تضبط، وقف في إحدى الجلسات ليعلن تجميد مناقشات الموازنة. لكنه بعدما تراجع عن موقفه، نتيجة طلب عدد من الوزراء، تغير محياه، بما يوحي أنه ربما يراهن على تقاطع مصالح يمكن أن يؤدي إلى إقرار المشروع. صار متحمساً للعمل في الجلسات التي تلت، لا بل مصراً على تحقيق إنجاز ما.
وفيما كان وزير المالية يحذر من أن الرواتب ستتوقف في أيلول إذا لم تقر الموازنة أو لم تقر اعتمادات إضافية، حيث تكون الوزارة قد استنفدت الصرف على أساس القاعدة الاثني عشرية، فهذا يعني أن الضغط سيزداد في الفترة المقبلة على مختلف الكتل، بحيث تكون أمام خيار من اثنين: إما السير في إقرار الموازنة أو استبدالها بقانون يسمح بزيادة اعتمادات إضافية على الموازنة. وفي كلا الحالتين، ستكون النتيجة عقد الجلسة التشريعية، من دون أن يعني ذلك أن انعقادها سيكون قريباً.
جهد بلا فائدة
أجواء مجلس الوزراء تشي بجدية مفاجئة إذن. ينكب الوزراء على مناقشة المواد، ويتقدمون بعملهم، من دون ان يعني ذلك أنهم سيصلون إلى النهاية السعيدة. «الجدية شيء والوصول إلى نتيجة شيء آخر»، يقول أحد الوزراء، رافضاً ما يقال عن أن الوزراء يناقشون الموازنة وهم يعرفون أنها لن تقر، يفضل استعمال تعبير ملطف أكثر. يقول «هم يتوقعون أن لا تقر».
إمكانية التفجير موجودة أيضاً، وإذا كان المجلس قد اعتمد، حتى الآن، سياسة السير بين الألغام، من خلال الابتعاد عن المواد الإشكالية وإنجاز المواد الأقل خلافية، فإن الجلسات المقبلة، ستكون حاسمة وقد لا يتمكن المجلس من تخطي ألغامها، بما يؤدي حينها إلى إنهاء زوبعة الموازنة، والبدء بالبحث عن قوانين ضرورية أقل تعقيداً، أبرزها قد يكون الاعتمادات الإضافية أو ربما «السلسلة». أما الموازنة، فلن يطول الزمن قبل أن تعلو الأصوات المقللة من أهمية إقرار موازنة العام 2015، بعدما انتصفت السنة، حيث يُتوقع أن تكون دوائر وزارة المالية قد بدأت التحضير لإعداد موازنة العام 2016، التي يفترض أن ترسلها الوزارة إلى الحكومة في آب المقبل.
لا عمل لدينا
مع ذلك، يبقى السؤال مشروعاً: هل من الممكن إحداث الخرق وتفجير المفاجأة بإقرار الموازنة الحالية؟ «الأمر ممكن نظرياً»، يقول أحد الوزراء. أما عند سؤاله عن أسباب استمرار مناقشة الموازنة في ظل معطيات عديدة تفيد أن الظروف التي حالت دون إقرارها في السنوات السابقة لا تزال على حالها، إضافة إلى الحديث عن أنها صارت جزءاً من التسوية التي تشمل رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وقانون الانتخاب و «السلسلة» والمواقع الأمنية وقطع الحسابات والتسوية المالية… فيجيب بسرعة: «ليس لدينا شيء آخر نفعله».