Site icon IMLebanon

قضية الجزائر وليست قضية بوتفليقة

 

تبين مع مرور الوقت ان مناورة تمديد ولاية عبد العزيز بوتفليقة، بعد فشل السعي الى ان يكون رئيسا لولاية خامسة، لم تنطل على الجزائريين. يؤكّد ذلك استمرار الحراك الشعبي السلمي في كلّ المناطق الجزائرية في ظلّ رغبة واضحة في تفادي بقاء بوتفليقة، او الذين يلعبون دور القائم باعمال رئيس الجمهورية، في السلطة. التقطت المؤسسة العسكرية معنى الحراك الشعبي، فاعلنت شغور منصب الرئاسة، أي وضع حدّ للملهاة الدائرة منذ 2013، تاريخ توقف دماغ بوتفليقة عن العمل اثر الجلطة التي أصيب بها.

 

حصل تغيير كبير في مطالب الجزائريين الذين ادركوا انّ لا بدّ من الانتهاء من نظام بال لا معنى له مليء بالعقد التي تحكّمت بالجزائر منذ الاستقلال. لم يتوقفّ الجزائريون عند منع ترشح بوتفليقة ثم قطع الطريق على تمديد ولايته عبر حيلة اسمها «الندوة الوطنية» المرشّحة الى ان تطول الى ما لانهاية، أي الى يوم يلقى فيه عبد العزيز بوتفليقة ربّه.

 

انتقل الجزائريون الذين قرروا النزول الى الشارع بالآلاف الى المطالبة بفترة انتقالية قصيرة يليها انتخاب رئيس جديد للجمهورية. هذا مطلب واقعي يعكس فهم المواطن الجزائري العادي لما هو مطلوب في المرحلة المقبلة. يفترض تسمية هذه المرحلة مرحلة نقل الجزائر الى القرن الواحد والعشرين بعدما أمضت سنوات طويلة أسيرة نظام عسكري- امني- بيروقراطي اسّسه هواري بومدين في العام 1965  بعد اطاحته رئيسا ساذجا تخصّص في بيع الاحلام كان اسمه احمد بن بلّه.

 

بات الموضوع المطروح في الجزائر موضوع تغيير النظام والانتهاء من عهد عبد العزيز بوتفليقة ومخلفاته الذي اخذ البلد الى مرحلة من الجمود بدل الاقدام على إصلاحات جذرية تقود الى قيام نظام ديموقراطي يكون فيه تبادل للسلطة عبر صندوق الانتخاب.

 

للمرّة الالف، استطاع بوتفليقة تحقيق مصالحة بين الجزائريين ابتداء من العام 1999. ما لم يستطع تحقيقه هو انتقال الجزائر الى مرحلة جديدة بعيدا عن الرغبة في الانتقام من العسكر الذين حالوا دون خلافته هواري بومدين في العام 1979. فقضيّة الجزائر ليست قضيّة ذات طابع شخصي، أي قضيّة بوتفليقة الذي لم يستطع خلافة هواري بومدين. القضيّة ابعد من ذلك بكثير. قضية الجزائر مرتبطة اوّلا وأخيرا بمواجهة الحقيقة والواقع بدل الهرب منهما. لا مفرّ من امتلاك الجرأة لطرح أسئلة من نوع ما الذي جعل الجزائر تفشل على كلّ صعيد منذ العام 1962؟ لا خلاف على ان بن بلّه كان شخصا متخلفا لا علاقة له بما يدور في العالم. ولكن ما الذي فعله هواري بومدين الذي هيّأ الجزائر والمجتمع وأعدّ الأرض لانتفاضة تشرين الاوّل – أكتوبر من العام 1988 عندما نزل الجزائريون الى الشارع في عهد الشاذلي بن جديد؟

 

من الطبيعي في هذه المرحلة ان يطرح الجزائريون على نفسهم الأسئلة الصعبة. هذا يعني امتلاك شجاعة القيام بعملية نقد للذات في العمق من دون مواربة من ايّ نوع. ما معنى القيام بـ»ثورة زراعية» في سبعينات القرن الماضي اذا كانت النتيجة تراجعا على كلّ الصعد للقطاع الزراعي في بلد غنيّ بثرواته المختلفة، بما في ذلك الزراعة؟ ماذا يعني القيام بـ»ثورة صناعية» اذا كان كان الهدف بناء صناعة ثقيلة من دون تحديد مسبق للسوق التي سيصرّف فيها انتاج هذه الصناعة. من سيأكل ما تنتجه الصناعة الثقيلة في الجزائر، او على الاصحّ هل تطعم هذه الصناعة المواطن الجزائري خبزا وتأتية بالجبنة والبيض اللذين كان يفتقدهما المواطن في عهد هواري بومدين؟ ماذا يعني التعريب اذا كان ذلك سيجعل الجزائريين يخسرون اللغة الفرنسية، التي هي احدى اهمّ اللغات في العالم، من دون ان يربحوا العربية التي هي لغة مهمّة وغنيّة لكنها ليست لغة تسمح باي أبحاث علمية من ايّ نوع؟ هل من يراهن على تعليم شعبه العربية على يد أساتذة فاشلين من مصر وسوريا والعراق، من بقايا اخوان مسلمين وبعثيين؟ هذا ما فعله هواري بومدين الذي اسّس لتراجع المجتمع الجزائري وللانفجار الذي حصل في العام 1988.

 

هذا غيض من فيض ارتكابات هواري بومدين الذي  شاهدته بامّ عيني في سبعينات القرن الماضي يهاجم الملك حسين في مؤتمر انعقد في قصر المؤتمرات في منطقة «نادي الصنوبر» قرب العاصمة الجزائرية. لم يدر في خلد بومدين في ايّ لحظة ان الملك حسين انقذ الفلسطينيين من انفسهم في العام 1970  عندما حال دون سقوط الأردن الذي هو خط الدفاع الاوّل عن القضية الفلسطينية وعن القدس، في حال كان للقدس الشرقية ان تعود يوما عربيّة.

 

في كلّ الأحوال، هناك مرحلة جديدة في الجزائر. لن يكون الامتحان الكبير على الصعيد الداخلي فقط. سيكون هذا الامتحان على الصعيد الخارجي أيضا حيث يفترض في الجزائر لعب دور إيجابي في شمال افريقيا وفي العالم العربي. ليس مفهوما الى الآن ما الذي دفع الجزائر في العام 1977، الى الوقوف في وجه أنور السادات الذي كان يسعى الى استعادة ارضه. ذهب الى القدس والقى خطابا في الكنيست. في نهاية المطاف حرّر السادات سيناء من الاحتلال وسعى في الوقت ذاته الى جعل الفلسطينيين ينخرطون في عملية سلمية في وقت كان عدد المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربية لا يزال محدودا.

 

من المهمّ ان تتصالح الجزائر مع المنطق وان تتغلّب على عقد الماضي. هناك سفير جزائري مهمّ قال لي مرّة بالحرف الواحد: «لن نسمح للمغرب بتحقيق أي انتصار في الصحراء في يوم من الايّام». اين مشكلة الجزائر عندما يستعيد المغرب حقوقه في الصحراء المغربية؟ هل كان يجب بقاء الصحراء مستعمرة اسبانية حتّى يرتاح بال الجزائر؟

 

ما يسعى اليه الجزائريون في هذه المرحلة هو قطيعة مع الماضي. بكلام أوضح، يريد الجزائريون التصالح مع المنطق. التصالح مع المنطق يعني اوّل ما يعني الوصول الى نظام يعتبر المواطن الجزائري همّه الاوّل والأخير.

 

يناضل الجزائريون حاليا بطريقة حضارية من اجل تخطي عهد عبد العزيز بوتفليقة والحلقة الصغيرة المحيطة به. الجزائر في نهاية المطاف اكبر بكثير من افراد تلك الحلقة الباحثين عن ضمانات لهم تعفيهم من ملاحقات قانونية في المستقبل، أي بعد خروج بوتفليقة من موقع الرئاسة.

 

لدى الجزائر ثروات ضخمة. لديها أيضا ثروة بشرية. ضاعت الثروات الضخمة وضاعت الثروة البشرية المتمثّلة في الانسان الجزائري منذ استقلت الجزائر عن فرنسا. ثمّة حاجة الى رئيس جديد يعيد الاعتبار الى الانسان الجزائري. رئيس من دون عقد. رئيس يرفض ان تكون الجزائر أسيرة الاوهام والشعارات من نوع «تقرير المصير للشعب الصحراوي»، كما لو انّ الانتصار على المغرب في الصحراء المغربية يمكن ان يكون له معنى من أي نوع كان.

 

يريد الجزائريون ما يطعمهم خبزا واستثمار الثروة النفطية والغاز لمصلحة المواطن الجزائري ومستقبله. هذا هو، بكل بساطة مقياس النجاح في الجزائر وليس ايّ شيء آخر لا اكثر ولا اقلّ.