أفرج القضاء الفرنسي أمس عن اللبناني مازن الأتات، الموقوف منذ عام بطلب من السلطات الأميركية. إطلاق السراح المشروط (وضع سوار إلكتروني في ذراعه لتحديد موقعه، ومنعه من الخروج من المنزل سوى لنحو ست ساعات يومياً، في نتظار الحكم النهائي بحقه في كانون الأول المقبل)، جرى من دون أن تبذل وزارة الخارجية اللبنانية أي جهد للدفاع عن حقوق المواطن اللبناني الذي اعتقلته الشرطة الفرنسية، من دون ان يكون متهماً بارتكاب أي مخالفة في الأراضي الفرنسية. التوقيف بناءً على طلب من السلطات الأميركية، وبموجب اتفاقية بين البلدين، كان بتهمة مخالفة العقوبات الأميركية على روسيا وسوريا وحزب الله. ورغم أن الادعاء العام الاميركي لم يزوّد نظيره الفرنسي بأدلة تثبت المزاعم بحق الاتات، إلا أن المحكمة الناظرة في القضية أبقت عليه موقوفاً لنحو عام كامل. ولولا تدخّل الأمن العام اللبناني، لكان امد توقيفه قد طال أكثر. فقد علمت «الأخبار» ان المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم تابع القضية مع أكثر من جهة فرنسية. ورغم أن الاستخبارات الخارجية الفرنسية سبق أن أبلغت الأمن العام أنها لن تتدخّل في ملف قضائي، إلا ان ابراهيم تابع اتصالاته مع اجهزة فرنسية اخرى، وطالبها في المرحلة الاولى بالإفراج عن الاتات، وهو القرار الذي صدر اول من أمس، وجرى تنفيذه أمس في مفاجأة للأتات نفسه ولمحاميه.
على مدى عام، اكتفت وزارة الخارجية بتكليف سفير باستقبال عائلة الاتات مرة واحدة، وبإرسال احد الدبلوماسيين لزيارته في السجن مرة واحدة أيضاً (الزيارة الثانية كانت من قبَل موظف في الشؤون القنصلية، بناءً على طلب الاتات الذي أراد تنظيم وكالة لأحد أفراد عائلته). لكن ما جرى منذ أيام، من قبَل الخارجية، كان أشد خطورة من التقاعس عن واجب الدفاع عن مصالح لبناني في الخارج. فرَدّاً على ما نشرته «الأخبار» سابقاً عن تلكّئها عن أداء المهام التي يفرضها عليها القانون، أصدرت الوزارة بياناً قالت فيه (بعد زعمها أنها تابعت الأزمة عن كثب) إنها «التمست من السلطات الفرنسية مرة تلو الأخرى موقفا واضحا مفاده أن مسألة توقيف السيد الأتات عالقة أمام القضاء الفرنسي، وانه لا إمكانية للتدخل في وساطة بين القضاء والسياسة». وأضافت وزارة الخارجية اللبنانية: «وعليه، فإن الحل لهذه الأزمة يكون بالوسائل القضائية أمام القضاء الفرنسي فقط، وذلك عن طريق الدفع بعدم قانونية الشروط الموضوعة لإطلاق سراحه، سيما الكلام عن احتمال تسليمه إلى دولة ثالثة، في خرق واضح لأحكام الاتفاقيات الثنائية بين لبنان وفرنسا بشأن تسليم المحكومين». في العبارة الاخيرة تكمن الخطورة. فهذا البيان الصادر عن جهة رسمية، يتضمّن تنازلا تاما عن «سلطة القضاء» لجهة خارجية. فالاتات ليس متهماً بارتكاب جرائم في فرنسا، ولا في أوروبا، ولا في الولايات المتحدة الأميركية التي تطالب بترحيله إلى أراضيها لمحاكمته هناك. ورغم ذلك، وافقت الخارجية، في بيان رسمي، على أنه مشمول بـ«الولاية القضائية» الفرنسية! كذلك فإن الوزارة وضعت مسألة سياسية، كتسليم دولة أجنبية مواطنا لبنانيا إلى دولة ثالثة، من دون أي يكون قد ارتكب أي جرم في أيّ من الدول الثلاث، في سياق قضائي عادي، فيما كان يجب عليها التعامل معها كقضية سيادية تهدّد أسس العلاقات بين لبنان وفرنسا. يُضاف إلى ما تقدّم أن توقيف الاتات تم بناءً على طلب من النيابة العامة الفرنسية (التي لبّت طلب نظيرتها الأميركية). والنيابات العامة (كما كل السلطة القضائية، وفي كل دول العام) تلتزم السياسات التي ترسمها دولها. وقرار تسليم مواطن لبناني إلى الولايات المتحدة هو قرار سياسي فرنسي، يعبّر عن اصطفافات سياسية واضحة، ولا يمتّ إلى القضاء والعدالة بصلة. يكفي أن تتخيل وزارة خارجيتنا الأمر معكوسا: أن ينظر القضاء اللبناني في أمر تسليم مواطن فرنسي إلى دولة ثالثة. ما الذي كان سيفعله إيمانويل ماكرون وكبير جواسيسه برنارد إيميه؟