IMLebanon

قضية «بنت الحارس»

«عندما يصبح الهدف وسيلة والوسيلة هدفاً…»

«إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا     لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر»    عمر بن أبي ربيعة

قد لا يعرف الكثير من شبابنا قصة فيلم «بنت الحارس»، إحدى روائع الرحابنة قبل اندلاع حرب المجنونة.

تتحدث هذه القصة عن بلدة في مكان ما من لبنان، حيث نذر حارسان بلديّان نفسيهما للمحافظة على أمن البلدة ومقاومة كل اعتداء على أرزاق سكانها وحياتهم، بتفان وإخلاص حتى مضى زمن طويل من دون أن يحدث أيُّ عمل مخلّ بالأمن، وبالتالي انتفاء الحاجة إليهما في المهمة التي كانت بعهدتهما.

قرّر عندها المجلس البلدي انهاء مهمة الحارسين. فوجئ الحارسان بهذا القرار الذي حوّلهما من بطلين تنسج عليهما الأساطير في القرية وجوارها، ليصبحا عاطلين عن العمل من جهة، ومن جهة أخرى فقد خرجا من دائرة اهتمام أهل البلدة وأصبحا مواطنين عاديين بعد سنوات طويلة من دور البطولة.

بالنتيجة، فقد قامت ابنة أحد الحارسين بافتعال أعمال مخلّة بالأمن في البلدة حتى أُجبر المجلس البلدي على تجديد مهمة الحارسين.

في الرواية اختصار طريف لواقع عانت منه مجتمعات عدة بعد حالات الثورة والحروب وغياب سلطة القانون عندما تنبري مجموعات من الناس بالتبرع للمقاومة أو حفظ الأمن وحماية المجتمع بغياب الدولة.

ففي ظل الصراعات والحروب تنشأ حالات تضع أفراداً أو مجموعات في موقع الصدارة والاحترام في مجتمعاتهم بناءً على المعطيات المنبثقة عن حالة الصراع. ويكون عادة في هذه المواقع القادة العسكريون والخطباء الحماسيون وأبطال المعارك، وما ينشأ حول هذا الواقع من أدبيات ومؤسسات وملحقات.

ولكن الصراعات مصيرها أن تصل إلى خواتيمها، وعادة تنتهي بشكل مفاجئ، على عكس بداياتها التي تكون تصاعدية وتتطلب تغييراً بنوياً تدريجاً في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حتى تبلغ الذروة، ومن بعدها تأتي نهاية الصراع بشكل حاسم، ما يستدعي تغييراً سريعاً في كل العادات التي نبتت وتأسست على مدى مرحلة الصراع، وذلك حتى تتناسب مع مرحلة السلم الجديدة.

هنا، وفي هذه المرحلة، قد يواجه المجتمع العديد من أمثال «بنت الحارس» الذين يحاولون التمسك بحال النزاع التي كانت هي أساس وجودهم وأساس تصدّرهم لحلقات المجتمع كأبطال وملهمين وحتى قديسين!

لقد واجهت شعوب عدة هذه الحالات واجتازتها بقدر متفاوت من الأزمات والنجاحات، والتحدي الأكبر يكمن هنا في كيفية إعادة تأهيل المجتمع ومكوّناته لتتناسب مع الوضع الجديد حيث لا حاجة للأبطال وإنما للإنتاج، مع الحرص على العرفان بالجميل لِمَن ضحّوا في سبيل مجتمعهم.

وفي لبنان، تبدو اليوم القضية ملحّة في ظل تغيير جذري في الثقافات والممارسات التي درجت على مدى الثلاثين سنة الماضية وكان معظمها أمراً واقعاً فرضته ظروف الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي من جهة وواقع الوصاية السورية من جهة أخرى.

وبعد سنوات من المكابرة، وبعد اختلاق ألف سبب وسبب لاستمرار السلاح خارج سلطة الدولة، من مزارع شبعا وصولاً إلى «داعش» وأخواتها، يبدو أنّ الأمر أصبح في الواجهة من جديد بعد خطاب الامين العام لـ«حزب الله» الأخير، أو سلسة خطاباته الأخيرة، التي اخترع فيها عدوّاً جديداً لتسويغ بقاء حزبه.

العدوّ الجديد هو الفساد، وبالطبع فإنّ هذا العدوّ الشرير قد يشكل نقطة تفاهم مشتركة بين كل اللبنانيين لمقاومته. لكن ما لا يمكن فهمُه هو أين سيضع «حزب الله» سلاحه في هذه المعركة؟ فإن كان يحكم القضاء والقانون والدستور، ولكل أدواته الرسمية، ما هو دور سلاح الحزب؟

وبما أنّ الصراع مع العدوّ كما يبدو لم يعد من أولويات الحزب، والحرب في سوريا انتهت فقد يكون الوقت قد أتى للبحث جدّياً في مخارج لكيفية تولّي الدولة مسألة تحول عشرات آلاف الموظفين، من مدنيين وعسكريين، في مؤسسات «حزب الله» النضالية المموّلة، حسب تصريح أمين الحزب العام، من إيران، إلى عاطلين عن العمل!

فليس بالعقيدة النضالية وحدها يحيا الإنسان، وبالتالي فإنّ التصريح الأخير لنصر الله كان واضحاً بأنّ الأزمة المادية للحزب أصبحت في حكم الأمر الواقع بسبب الحصار المحكم على إيران، وبسبب الحصار المفروض على مصادر الحزب المالية من شرعية وغير شرعية.

كلامي هذا يأتي بعدما سمعت كلاماً من أحد المتحدثين الشباب بإسم الحزب، في إحدى المحطات التلفزيونية التي أكد فيها بأنّ المقاومة هي أيضاً مؤسسة تشغل حوالى ستين ألفاً من المواطنين، وإذا كان المال يأتي من إيران أو من الخارج فإنّ ذلك يُعتبر استثماراً ومصدراً أساساً للدخل لعشرات آلاف العائلات!

وعندما علق أحدهم قائلاً إنه علينا إذاً أن ندعو العدوّ إلى المزيد من التعديات حتى لا يقفل باب الرزق الآتي من المقاومة، كان الجواب أنّ زوال الحاجة لمؤسسات «حزب الله»، أو انقطاع تمويلها، سيؤدّيان إلى أزمة اقتصادية إضافية لتزيد على ما هو واقع!

السؤال الآن هو هل فتحُ جبهة الحرب على الفساد اليوم هو لخلق عدوٍّ جديد، أم أنه صرخة للنجدة من انقطاع سبل الرزق لآلاف العائلات المنخرطة في مؤسسات الحزب؟