Site icon IMLebanon

التفتيش المركزي هذه حدوده وهؤلاء هم الفاسدون

 

القاضي جورج عطيه وضع “خريطة الطريق” وينتظر لحظة الصفر

 

تتردّد الكلمة بأشكالٍ وأنماط: فساد. الفساد. فاسدون… ويبقى المعنى يقودنا في متاهات ما نعيش. فهل نحن شعبٌ كُتب له أن يموت في اليوم مرات ومرات أم نحن شاركنا الفاسدين فسادهم فأصبحنا واحداً؟ ماذا عن التفتيش المركزي الذي يحتفل في هذه الأيام بعيده الثاني والستين وهو الذي شُكّل كجهاز رقابي يحمي من الفساد والفاسدين؟ رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطيه “فتح قلبه” وغاص في كل المواضيع فعامت الملفات التي أسست للفساد وانتهت الى: “مع وقف التنفيذ”! كل التفاصيل في هذا اللقاء:

 

هنا التفتيش المركزي. إنه بعد الظهر. المكان مقفر. ووحده “الريّس” في الطبقة العلوية وأمامه تتكدس ملفات كثيرة وأوراق تضم قصصاً قد لا تخطر في بال. إنها قصص فساد حقّق فيها التفتيش المركزي. ولكن… ماذا عنها؟ ماذا عن هذا الجهاز؟ يجيب “أنشئ الجهاز الرقابي في العام 1959. وأعطيت له مهام تفوق المسائل التأديبية. فليس التفتيش المركزي أداة تأديبية فقط للمعاقبة والإقتصاص من الموظفين إنما هو جهاز رقابي معطى صلاحية الرقابة وتحسين العمل والتنسيق بين مختلف الإدارات والبلديات والوزارات وإعطاء المشورة للسلطات إما عفواً أو بناء لطلبها والمراقبة والقيام بالدراسات والأعمال التي تكلفه بها السلطات”.

 

ويعود عطيه الى الوراء طارحاً سؤالين: “هل تعرفين عدد موظفي القطاع العام يوم تأسس الجهاز الرقابي؟ هل تعرفين عدد المفتشين الذين كانوا في الملاك يوم تأسس التفتيش المركزي وما آلت إليه الأمور اليوم؟” ويتابع “كان عدد موظفي القطاع العام 4000 فقط وعدد المفتشين كان 30 مفتشاً إدارياً و36 مفتشاً مالياً و27 مهندساً مفتشاً بينهم 16 مهندساً مدنياً و9 مفتشي كهرباء وإتصالات و8 أطباء مفتشين و9 مفتشين زراعيين صحيين ويومها لم يكن هناك كما اليوم 1100 بلدية و150 إدارة عامة و1350 مدرسة رسمية و450 معهداً تقنياً. مقابل كل هؤلاء، هناك طبيبان فقط لكل القطاع و7 مفتشي كهرباء واتصالات لكل القطاع و0 موظفين ماليين من أصل 36. فكيف يمكن مراقبة كل هذا القطاع بهذا العدد فقط من المفتشين؟”.

 

يؤكد رئيس التفتيش المركزي “أن لا احد قد استثمر في التفتيش المركزي ولا في أجهزة الرقابة كلها منذ انتهاء الحرب اللبنانية. فهل يعقل ان تزيد الإدارات أضعافاً مضاعفة ويبقى ملاك التفتيش كما هو. حتى هذا العدد غير موجود. مع العلم أننا طلبنا مراراً تعبئة هذا الملاك. حين وصلت الى مركزي قبل أربعة أعوام كان كل ملاك الفئة الأولى في التفتيش المركزي فارغاً. أتينا بعشرة فقط جدد. وطلبنا نقل موظفين الى التفتيش غير ان الموضوع بحاجة الى قرار مجلس الوزراء”.

 

مهام التفتيش بحاجة الى العنصر البشري لتُنجز. العنصر الإداري أيضاً مفقود وكأننا في صحراء. وبرأيي، والكلام لعطيه، أن كل أساليب الرقابة السابقة في لبنان لم تعطِ ثمارها المرجوة بدليل ما وصلنا إليه. لا أقصد طبعاً ان التفتيش قد فشل لكن ثمة ثماراً مرجوة لم يستطع إعطاءها لضعف المقدرات البشرية لديه والإمكانيات التقنية والأدوات اللازمة.

 

هل نفهم من كل هذا ان هناك إرادة سياسية أرادت “فشل” هذا الجهاز الرقابي؟

 

لا يقتصر ما يحدث على التفتيش المركزي. فهل تعرفين أن ديوان المحاسبة مضى عليه أعوام لم يقم فيها بقطع حساب؟ ليس لديه مدققون ومراقبون ولا حتى قضاة. لذا دعيني أقول إنه لم يُرد الإستثمار في هذه الأجهزة. والإدارات لا تُضبط من دون أجهزة إدارية. فالعسكر بحاجة الى فرع المعلومات أو المخابرات كي تُضبط المؤسسة. الأجهزة كلها بحاجة الى إمكانيات المراقبة وإعطاء التوجيهات وتحديد الثغرات وإعطاء المقترحات.

 

من هو المتهم بعرقلة أجهزة المراقبة؟

 

أعدّ خطة طريق لهذه الغاية. جمعت قرارات الهيئة منذ العام 2000 وعددها يزيد عن 3500 قرار، تضم توصيات للإدارات العامة والعقوبات الصادرة. وكل هذه القرارات لم تر النور. لماذا؟ لأنهم لم يأخذوا بالتوصيات. التوصية ليست ملزمة للإدارات إلا معنوياً. المفروض محاسبة الحكومة والوزراء الذين لم يأخذوا بهذه التوصيات. وهذه مسؤولية منظمة الرقابة كاملة. فالعمل الرقابي لا يكون مجتزأ. فهل تعرفين أن التفنيش المركزي غير قادر على الوصول الى الوزير ومحاسبته. نحتاج الى رؤية جديدة. وكل ما نسمعه من الآخرين هو توجيه الإتهامات إلينا متغاضين عن كل الإنجازات التي حققناها. ومنصة impact واحدة منها.

 

أنت قلت نحن نتنفس الفساد مع الهواء. فهل هذا الواقع يجعل مواجهة هذه الآفة محالاً؟

 

فلنُعرّف أولا الفساد وهو خروج العمل الإداري عن النصوص القانونية المعدّة له. وهو ساد بسبب تفاقمه. وسكوت الناس عن حقهم وعدم إعطاء الحق للمواطن في الخدمة العامة هو فساد. الفساد أوسع من الجرائم. وهو ليس موجوداً في القانون. أن نطلب مستندات إضافية من المواطنين هو فساد. وأن نحرق أعصاب المواطنين كي نلبي خدمة عامة هو فساد. وأن تطلب الإدارات مستندات تختلف عن طلبات إدارات أخرى هو فساد. وأن يخضع المواطن الى مزاجية موظف غير منضبط هو فساد. فالموظف لا يحق له أن يستنسب ابداً. الموظف عليه تنفيذ القوانين التي تصل إليه عبر تعاميم. الجرم معروف ومحدد أما الفساد فأخطر بكثير لأنه وجهة نظر. تجزئة النفقة ليس جرماً بل فساداً، بمعنى أن المعاملة التي هي بقيمة مليار ليرة ونقسمها أجزاء مئة وحدة، بقيمة 75 مليوناً لكل وحدة. هو فساد يفترض بديوان المحاسبة ان يلاحق عليه. التفتيش المركزي إكتشف حين دخل الى إحدى الوزارات (وزارة الأشغال) مئات من التلزيمات بقيمة 75 مليون ليرة تهرّباً من إدارة المناقصات. هذا ما اكتشفناه في أوائل عام 2020 وأوقفناه. هذا فساد يحدث يومياً لأننا نكون قد أهدرنا حق المنافسة العامة وهتكنا الشفافية والمساواة بين جميع المواطنين أمام الفرص العامة.

 

ما تتحدث عنه غاية في الأهمية لكنه متماد فهل معناه أنهم كلهم مشاركون بالفساد؟

 

ليس التفتيش المركزي هو المولج بمكافحة الجرائم الجزائية. نحن لسنا نيابة عامة ولا يمكننا القيام بهكذا تحقيق لأننا لسنا أخصام الإدارة بل نحن الى جانبها نتخاطب معها إدارياً من خلال المراسلات. نحن لا ننطلق من مراسلاتنا على أننا نتعاطى مع مجرمين. وإذا وجدنا في أداء أحد الموظفين جرماً نحوله الى الضابطة العدلية.

 

بالتكليف

 

 

هناك وجه آخر للفساد يتمثل في أمر التكليف. فكل أمناء السجل العقاري في لبنان بالتكليف، أو لنقل 90 في المئة منهم. و90 في المئة من القائمقامين هم مكلفون. وكل رؤساء مكاتب التنظيم المدني في لبنان بالتكليف. المدراء العامون نصفهم أيضا بالتكليف. ورؤساء دوائر المساحة بالتكليف. فهل يعرف اللبنانيون ماذا يعني تكليف موظف؟ معناه أن وزيراً ما ينفرد في التكليف حين يشاء وفي العودة عنه إذا شاء. وهذا معناه إرتهان المكلف له. البارحة كانت هناك مديرة عامة بالتكليف في وزارة الداخلية، هي فاتن أو الحسن، قرر الوزير إستبدالها بأحمد الرجب. أنا لا أعرف كلا المكلفَين لكن الأمر ليس سويّاً. إنزلي الى المحافظات هناك من هم في الفئة الرابعة يكلفون بمناصب في الفئة الثانية علما أن القانون يقول بتكليف شخص من الفئة الأدنى درجة فقط. هناك مكلف في منصب مدير عام الطيران المدني علماً أنه متعاقد والمديرية محلولة. هذا فساد.

 

يعني، يمكننا إعلان اليوم أن لا حول ولا قوة لكم أمام هذا الكم من الفساد؟

 

ما يحدث أوسع من قدرتنا. نحن نحدد الخلل ونرفع فيه توصيات لكن يعودون ويجمدون التوصيات. والسيارة كما تعلمين لا تمشي بأربعة دواليب فقط. نحن أوقفنا أحد الموظفين عن العمل من دون راتب. وهو يستمر الآن في موقعه. زمان كنا حين نوجه تأنيباً أو تنبيهاً أو حسم راتب عن أحد الموظفين يُصبح وجهه في الأرض أما الآن فلا يبالي لا هو ولا من عينوه. وأعلى عقوبة يمكن أن يتخذها التفتيش المركزي اليوم هي إيقافه عن العمل شهراً كاملا. في كل حال، أنتظر ان “تُركب” الحكومة الجديدة كي أقول لكل وزير: هذه هي خطوات الإصلاح.

 

هل نفهم من كلامك أن أوان الإصلاح اليوم قد حان؟

 

بالتأكيد، لأن المناخ اختلف. نحن نزلنا 450 مرة على الأرض في العام 2018. وتلقينا شكاوى من المواطنين تزيد عن 450 شكوى في 2018 مقابل 160 فقط في 2017. نحن قلنا للمواطن: نرجوك أن تسمعنا صوتك. لأننا إذا سمعنا إسم موظف يتردد 10 مرات في الشكاوى يمكننا تسليط الضوء عليه. فجهازنا البشري محدود جداً. ودورنا السعي من أجل تحسين الأمور. قبلي لم يكن أحد يحقق مع رؤساء البلديات على أساس أن أعمال السلطتين التقريرية والتنفيذية تخرج عن صلاحيات التفتيش المركزي. لكننا عملنا على تفسير نص يتحدث عن الملاءمة والشرعية. وأصبحنا بموجب تفسير القوانين نشمل هؤلاء أيضا. فموظف البلدية يخضع غالبا الىى قرارات رئيسه. وبتنا نفتش ونحقق ونرسل ما توصلنا إليه الى وزارة الداخلية لأن النص يقول: التحقيق مع رؤساء البلديات لا يتم إلا من خلال وزارة الداخلية.

 

أفكار كثيرة. أعمال كثيرة. لكن القدرات قليلة. ينظر رئيس التفتيش الى اللمبة المضاءة ويقول: بعد يومين سيتوقف موتور التفتيش المركزي عن العمل لكننا سنسعى لاستجلاب تبرعات كي يبقى الجهاز مضاء. لن نرضخ. ويقول: “حولت مئة وخمسين ملفاً لها علاقة بمئة رئيس بلدية. لا أقول إن هؤلاء جميعاً مجرمون لكن هناك شكوكاً حولهم. والبلديات تلك حيتان. نحن حولنا هذه الملفات. والعمل انتهى عند جورج (عنده) لكنهم لم يفعلوا مع هذه الملفات شيئاً. البارحة أتى مواطن قال إن أحد الموظفين طلب منه رشوة ألف دولار ومعه تسجيل بصوت الموظف؟ فاستدعيته وحولته الى الهيئة العليا للتأديب. فلا يمكن المزاح أبدا مع هكذا أمور. مديرة إحدى المدارس أخطأت بأدائها فحولناها الى هيئة التأديب. ورئيس بعثة ديبلوماسية أخلّ بأمانته فحولناه الى المحاسبة والتأديب.

 

ماذا عن التدخلات السياسية في هكذا مسائل؟ ماذا عن “المونة”؟

 

يقول عطيه: أتحدى أن يقول أحد السياسيين أنه اتصل بي وطلب خدمة ما. وأتحدى أن يقول أحدهم أنني قبلت هكذا طلب. فأنا قاض أثق أن كل الملفات هي ملك الله وأنا اعلن القرارات ولا أعطيها.

 

لكن، هل هناك من هو في سدة المسؤولية ومتحرر من الجميع؟ أليس في مثل هذا الكلام في حالة لبنان بعض المغالاة؟

 

أنا لست محسوباً (على عكس ما يشاع) على أحد، إلا على الحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه.

 

لبنان راكد على فساد واللبنانيون رفعوا شعارات كثيرة وهتفوا: لا للفساد. فماذا عن انطباعه وهو يشاهد ما شاهده الجميع؟

 

أنا مواطن، وسبق وكتبت أننا نتنشق الفساد. والفساد يجر المواطن أولا الى فساد ويدفعه الى ارتكابات غير سوية فيُصبح مشاركاً. فمن يدفع رشوة مقابل الحصول على خدمة عامة يكون مشاركاً في الفساد. فهناك راشٍ وهناك مرتشٍ. فلنحارب الفساد معا. واقول للحلقة الكاملة التي عليها المساهمة في مواجهة الفساد: شرفوا نفذوا الملفات التي أحلناها إليكم. أحد الوزراء ممن قلت له لديك مدير مكلف يحتاج الى إعادة عرض على مجلس الوزراء أجابني عبر الإعلام. هذا لا يجوز أبداً. أنا احب الموسيقى وأرتل في الكنيسة لكن إذا لم يكن هناك من يسمع أتوقف عن الترتيل. نحن نحتاج أن يسمعنا كل الآخرين وفي الإنتظار نعدّ الإصلاحات نحو الوثبة المقبلة. ونحن جاهزون؟