تواجه المعارضة السورية تحدّيات متزايدة. ولعل التحدّي الأكثر إلحاحاً هو التهديد للأرواح البشرية ومناطق السيطرة الذي يشكّله التصاعد الحادّ في أعمال العنف من جانب روسيا ونظام الرئيس بشار الأسد في الأسابيع الأخيرة. ومع ذلك فإن الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو احتمال أن تسمح الإدارة الأميركية لنفسها، وهي العضو الرئيس في التحالف الخارجي الذي يدعم المعارضة والراعي الشريك لمحادثات السلام في جنيف، بأن تُكرَه على التنازل في شأن العديد من القضايا ذات الأهمية الحيوية بالنسبة للمعارضة. وتشمل هذه القضايا الإصرار على رحيل الأسد بحلول نهاية الفترة الانتقالية (إن لم يكن قبل ذلك)، والتفاوض على الصلاحيات والترتيبات الانتقالية قبل مناقشة التعديلات الدستورية، ومقاومة محاولات الروس والنظام الرامية لفرض مرشحيهم على وفد المعارضة.
الجهود الدولية الرامية لتجديد وقف الأعمال العدائية في سورية وإنقاذ محادثات السلام مبررة وضرورية. ولكن يجب ألاّ تركِّز المعارضة أكثر من اللازم على هذا الهدف القصير الأمد. فمن المستبعد تماماً التوصّل إلى حل سياسي قبل أن تنشغل الولايات المتحدة بانتخاباتها الرئاسية، ولن تبدي الإدارة الأميركية الجديدة اهتماماً جدياً بما تعتبرها قضية ثانوية في السياسة الخارجية قبل ربيع العام 2017 على أقرب تقدير. لذلك، وبينما يتعيّن على المعارضة السورية أن تتعامل بفعالية مع الضغوط العسكرية والديبلوماسية المعقدة خلال الإثني عشر شهراً المقبلة، فإنها بحاجة أيضاً إلى استباق التحدّيات التي ستواجهها في نهاية تلك المدة، وإعداد الردود المناسبة.
ستتزايد التحديات لأسباب ليس أقلها أن نظام الأسد سيمضي الوقت الفاصل في تعزيز المزايا السياسية والعسكرية التي منحته تفوقاً طفيفاً منذ بداية الصراع. وكما هي الحال دائماً، سيقدم النظام نفسه على أنه يمثّل الدولة القادرة التي لا تزال تسيطر على نحو ثلثي السوريين الذين لا يزالون في البلاد. وسيدّعي النظام، كما فعل في الماضي، بأنه يعيد الخدمات العامة والإمدادات الغذائية، ويباشر عملية إعادة الإعمار من دون انتظار انتهاء الصراع أو الحصول على مساعدات دولية، ويجدّد النشاط الاقتصادي. وفي موازاة ذلك، سيسعى للتفاوض على عقد هدنات محلية يمكنه من خلالها تحييد المجتمعات ومقاتلي المعارضة المحليين مقابل تحرير قواته للانتقال إلى مواقع أخرى، بينما يخطط لشنّ هجمات جديدة.
يتوجّب على المعارضة تحسين أدائها في المجالات الثلاثة نفسها بدرجة كبيرة كي لا تتخلف نهائياً، وفي هذه الحالة سيتم تهميشها، إذا لم تهزم. سياسياً، قدمت الهيئة التمثيلية الرئيسة للمعارضة، الائتلاف الوطني، أداء معقولاً بتشكيل الهيئة العليا للمفاوضات، وتقديم مقترحات عملية ذات صدقية في جنيف. ولكن إذا سارت المحادثات قدماً، ستواجه المعارضة مهمة أصعب بكثير للحفاظ على وحدتها بينما تتعامل مع مقترحات تقاسم السلطة الانتقالية التي تقدم لها أقل بكثير مما تسعى للحصول عليه، والتي لم تستطع فرض أفضل منها في ميدان القتال. وهذا يتطلب بناء قدر كبير من التماسك داخل أطر المعارضة الرئيسة، والحصول على دعم قوي بين النشطاء المدنيين والمجالس الإدارية المحلية والفصائل المسلحة على الأرض.
يجب على المعارضة التغلب على نقطة الضعف الرئيسة المتمثلة في افتقار القيادة والهيكلية الفاعلتين. عملياً، هذا يعني تأسيس هيئة تنفيذية قادرة على اتخاذ القرارات اليومية، وتحديد وتفويض المسؤوليات، ووضع الاستراتيجيات السياسية. كما يتطلب بناء هياكل تسمح بالاندماج الحقيقي مع المعارضة في الداخل، وإيصال الأخيرة إلى المناصب القيادية، ووضع تفاهمات وعمليات لصنع القرار السياسي تضع حداً للسياسة المنهكة والضيقة الأفق التي ينتهجها «الائتلاف» والفصائل المكونة له ومنافسوه. وبهذه الطريقة وحدها ستتوافر للمعارضة الفرصة، أولاً، لإعداد نفسها للمشاركة في حكم البلاد، وهي مهمة لم يهيئها لها أداؤها في المناطق المحررة، وثانياً لتجنّب الالتفاف أو الاستيعاب من قبل شبكات النظام الأكثر خبرةً وتكاملاً.
عسكرياً، أظهرت المعارضة تحسناً في قدراتها عندما أحبطت الهجوم الكبير الذي شنّه النظام في شمال حماة في تشرين الأول (أكتوبر) 2015. غير أن خسائرها اللاحقة في شمال محافظة اللاذقية، وحول مدينة حلب، وفي مدينة الشيخ مسكين في الجنوب كشفت عن أوجه القصور المستمر التي تعاني منها. ومن الواضح أن جيش النظام استفاد من المساعدة الروسية المباشرة لتحسين إدارة المعركة، ما مكّنه من تحويل ثقل الهجمات العسكرية بسلاسة من جبهة إلى أخرى. في المقابل، لا يزال الطابع المحلي والمتشظي يغلب على جماعات المعارضة المسلحة، التي لم تتعلم بعد كيف تعوض عن محدودية القوة البشرية والنارية من خلال تحسين الإدارة الاستراتيجية. كما أنهم لم يطلقوا أو يواصلوا المبادرات العسكرية لمواجهة القوة الجوية الروسية، على سبيل المثال عبر شنّ هجمات عصابية متكررة على القواعد الجوية أو استنباط تكتيكات ناجعة لاستخدام أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات الروسية والصينية الصنع التي استولوا عليها من مخازن الجيش أو حصلوا عليها من السوق السوداء الإقليمية.
كما تعاني القوى الخارجية الداعمة للمعارضة المسلحة من قصور خطير في الأداء. ذلك أن مركَزَي العمليات العسكرية المنفصلين في تركيا والأردن يتبعان مقاربات مختلفة تعكس الأجندات المتباينة للحكومات المشاركة فيهما، أي الولايات المتحدة وتركيا وقطر والأردن والسعودية. وقد أرسلت تركيا بالفعل كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر إلى سورية، ونقلت مقاتلين من محافظة إدلب إلى جيب المعارضة في أعزاز شمال حلب، غير أن بوسعها أن تقوم بما هو أكثر عبر إخضاع مقاتلي المعارضة لعملية إعادة تدريب شاملة على مدى الإثني عشر شهراً المقبلة، خصوصاً في أدوار قيادية، ومساعدتهم على تطوير الإدارة الاستراتيجية والخطط العملياتية. بيد أن قدرات الأجهزة التركية ذات الصلة لا تكفي واهتمامها مشتّت بسبب التحديات الداخلية، ولا تزال تنظر إلى الولايات المتحدة لتولي القيادة. أما في جنوب سورية، فإن تدخل مركز العمليات العسكرية في عمان في أدق تفاصيل إدارة الجبهة الجنوبية للمعارضة أضعفها ومنح الجماعات التابعة لـ «داعش» الفرصة كي تتوسع. الولايات المتحدة يمكنها أن تفعل المزيد لتغيير الأمور، ولكن جماعات المعارضة المسلحة لا تستطيع أن تعتمد على ذلك، بل يجب عليها بذل المزيد من الجهد لتوحيد الموارد القتالية والاستخباراتية، والاتفاق على أولويات استراتيجية تتجاوز قطاعاتها المحلية، وتشكيل قيادات عمليات على مستوى المحافظات.
الشيء نفسه مطلوب إذا كانت المعارضة تريد مواجهة التحدي الأخير، المتمثّل في وجوب توفير إدارة مدنية فعالة في المناطق السورية التي تسيطر عليها. ويكتسب هذا الأمر أهمية إذا كانت المعارضة تريد الاحتفاظ بالدعم الشعبي- أو استعادته في المناطق التي خضعت فيها المجتمعات المحلية لهياكل منافسة أو ضعيفة الأداء، كما هي الحال في مدينة إدلب – ومواجهة تفوق النظام. ومن شأن تجدّد وقف الأعمال العدائية أن يسمح للمجالس المحلية ولجان الإغاثة وغيرها بتوطيد وتوسيع خدماتها، ولكن حتى لو تم استئناف القتال يجب على المعارضة أن تفعل الكثير لدمج المهام الإدارية داخل كل بلدة أو منطقة ولتكرار وتعميم النماذج والإجراءات الناجحة في كل المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
وهذا يعني أن تلتفت المعارضة إلى قضايا توليد الإيرادات وجمع ونشر البيانات، وتحديد ومعالجة الثغرات في توفير السلع الأساسية والنواقص في المهارات والقدرات، ودعم كل ذلك بنظام إداري واستراتيجية اتصالات وإطار موحد للمحاكم والشرطة المحلية. وهو يعني أيضاً الاعتراف بالمجالس الإدارية المحلية كجزء من القيادة السياسية للمعارضة، وليست تابعة لها، وبالتالي تمكين المجالس وتعزيز تمثيل المعارضة للانتفاضة السورية على حد سواء.
يشكل التصدي لأي من هذه التحديات، ناهيك عن التصدي لها كلها، أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة للمعارضة التي فشلت إلى حدٍ كبير في مواجهة أي منها والتي أخفقت في تعلّم الدروس خلال السنوات الخمس الماضية. من المسلّم به أن ما يمكن إنجازه في الوقت المتبقي محدود للغاية. غير أن المعارضة لا تستطيع تكرار الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته في العام 2012، عندما تجنّبت مواجهة هذه التحديات من خلال التشبّث بالأمل في أن الولايات المتحدة سوف تتدخل في سورية. ومن المرجّح أن تمنى التوقعات بأن الرئيس الأميركي الجديد قد يعتمد سياسة أكثر حزماً تجاه نظام الأسد (وروسيا) في العام 2017 بخيبة أمل، نظراً إلى تغيُّر المعطيات الداخلية والدولية المحيطة بصنع السياسة الخارجية الأميركية. فلا يمكن للمعارضة أن تعتمد على هذا. بل يجب عليها أن تبني عناصر القدرة على التحمّل والاستدامة بصورة منهجية. مجرّد التفكير بما هو قادم سيكون بداية جيدة، حتى لا تؤخذ المعارضة على حين غرّة في غضون عام من الآن.
* باحث أول، مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.