في الايام القليلة الماضية كان لافتاً ان يعود قسم من اللاعبين الاساسيين في ملف الاستحقاق الرئاسي الى مربعاتهم الأولى، فيما انصرف قسم آخر منهم الى استيعاب تداعيات خياراته الاخيرة في هذا المجال. رئيس مجلس النواب نبيه بري عاد الى مربع الرهان على انتظار خرق ما في جدار العلاقة السميك بين الرياض وطهران كمدخل اجباري لإتمام هذا الاستحقاق.
في الوقت عينه عاد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الى المربع الذي سكنه فترة طويلة وهو مربع عدم تنكّب المواقف الحاسمة ومن ثم الانطلاق في رحلة هزل سياسي لا تترك صديقا او خصما او بين بين إلا تناولته، علما ان صديقه بري هو صاحب مقولة عنوانها ان جدّ السياسة جدّ وهزلها جدّ.
على الضفة الاخرى انطلق زعيم “تيار المستقبل” الرئيس سعد الحريري في رحلة مداراة لردود الفعل على مبادرته بترشيح النائب سليمان فرنجية الى الرئاسة الاولى، خصوصا داخل معسكر صقور تياره وفي داخل فريقه الاوسع 14 اذار الذي شهد عملية تشلّع وانشقاقات صار من الصعوبة بمكان اعادة الامور معها الى نصابها الاول، لا سيما بعد لقاء معراب وما انطوى عليه من دلالات ورغبات عصفت بأحد ركنيه رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ونقلته الى فضاء آخر ورهانات اخرى مختلفة.
انها بمعنى آخر انطواء لصفحة وفتح لصفحة اخرى وتحديدا بالنسبة الى الاركان الثلاثة، اي بري وجنبلاط والحريري، وانطواء لتجربة سياسية ارادوا امرارها في عجالة بهدف اعادة انتاج تجربة سلطوية على غرار التجربة التي الفوها منذ عام 1992 إن من حيث المعادلات او من حيث الفيء والمغانم وتقريب من يرغبون وقطع الطريق على من لا يحبذون.
الذين قيّض لهم ان يدخلوا في الاونة الاخيرة الى الغرف المغلقة لهذا الثلاثي يلمسون حجم الشعور بالخيبة من جراء اخفاق رهان ظنوا انه نادر من جهة، وانه داني القطوف من جهة اخرى. ولم يعد خافيا ان هذا الثلاثي تمسك كثيرا بهذه الفرصة التي قد لا تتكرر ثانية، وهي ربما تكون سبيلهم الى القبض على زمن سلطوي استمر نحو ثلاثة عقود كانت لهم فيها كلمة الفصل والامرة. واكثر من ذلك، فهذا الرهان كان بالنسبة الى كل منهم مناسبة للتخلص من واقع اكرهتهم الظروف والتطورات على البقاء فيه طويلا وينتظرون لحظة الانفكاك من اسره ومن موجباته. فبري، على سبيل المثال، كان يخال ان الرهان على ترئيس فرنجية سيتيح له ولمرة اخيرة ان ينسحب من قيد 8 اذار الذي بات واضحا بحسب استطلاع اجراه احد المطلعين انه لم يرد في اي خطاب من خطاباته او في اي تصريح من تصريحاته منذ عام ونصف عام. انها بمعنى آخر فرصته ليلتحق بصديقه جنبلاط الى الموقع الوسطي او موقع اللاموقع الذي يبيح له التنقل وفق ما تمليه اللحظة والمصلحة ويسمح له بألا يقطع مع عاصمة، واستطرادا تسمح له بان يفرض شروطه على من يريد ان يخطب ودّ تحالفه، لا ان يؤدي دور المتلقي والاحتياطي. وبالمختصر المفيد فان الرهان الرئاسي الاخير الذي دخل بري مباشرة في لعبة اخراجه وانتاجه كان بالنسبة اليه فرصة للقطع مع مرحلة غلّت يديه عن كثير من الفعل.
اما بالنسبة الى جنبلاط، فان هذا الخيار الرئاسي كان بابا لانتاج انجازات مهمة حاضرا ومستقبلا، اذ سيبقيه في وضع “بيضة القبان” داخل مجلس النواب وسيظل حاجة ملحة لعواصم اساسية واطراف داخليين وازنين، فضلا عن انه سيحرره من عقدة الرئيس القوي الذي من شأنه ان يعيد عجلة الزمن الى زمن الثنائيات الجبلية، اضافة الى انه سيبعد عنه شبح الطرف القوي المتمثل بـ “حزب الله” وحليفه العماد ميشال عون.
اما بالنسبة الى الرئيس الحريري فانه لم يعد جديدا انه سيحرره من وطأة حليف الضرورة المسيحي القوي الذي صار يتصرف في الاونة الاخيرة على انه العصب الذي لا يستغنى عنه. والى ذلك، فان الخيار اياه يمثل للحريري جسر العودة الى تركيبة سلطوية يكون هو فيها صاحب الحل والعقد قبل ان يحل في الاقليم وتحديدا في الساحة السورية المأزومة واقع حال مخالف تماما لحساباته ومعارض تماما لخط سير توقعاته ورهاناته.
من البديهي القول انه من حق هذا الثلاثي وما يمثله كل منهم في ساحته الاجتهاد في معرض النص ولو تحت عنوان “لبننة الاستحقاق الرئاسي”، وهو الشعار الذي نظر اليه بري طويلا وعدّه سانحة قد لا تتكرر في ظل استغراق اللاعبين الكبار في صراعاتهم الكبرى الممتدة ونزاعاتهم البالغة الحدة، ولكنهم ربما ارادوا عن علم او غير علم ان يتجاوزوا بهدوء امرا واقعا جوهره ان هناك “مايسترو” اكبر لكل اللعبة الداخلية هو “حزب الله” الذي شعر استهلالاً بأن ثمة من اراد وضعه أمام خيارين احلاهما مر، فأخذ لنفسه فرصة اسبوعين من الصمت المدوي قبل ان يخرج سيده الى الضوء ويعلن مباشرة انه ليس في وارد التخلي عن مرشحه الحصري للرئاسة، أي العماد عون، ثم شرع على الفور في عملية إبطال الرهان على تفكيك فريق 8 اذار من خلال عدم التفريط بحليف تاريخي هو النائب فرنجية. كلمة نصرالله كانت بداية النهاية لحلم سياسي جنيني راود اذهان البعض واضطر معها الاطراف الثلاثة الى اعادة النظر في حسابات عقدوها سابقا واقتنعوا بصعوبة الفصل بين الرئاسة الاولى عبر اجتراح تسوية وبين انتظار جلاء التطورات الاقليمية.
هل هذا يعني ان الثلاثي المذكور قد عزف نهائيا عن الرهان على ترشيح فرنجية كما تخلى سابقا قسرا عن الرهان على رئيس وسطي في الشكل؟ يبدو ان بري وجنبلاط ابديا قبولا بالامر الواقع وإن على مضض. فمجالس بري عابقة بكلام وتساؤلات من مثل: ماذا يريدون مني واي خيارات يريدون لي ان اتجرعها؟ في حين ان جنبلاط شرع في اطلاق اعتراض مكتوم عنوانه مصطلح “مرشد الجمهورية” الذي لم يكرره سوى مرتين لادراكه حساسية “حزب الله” حيال اطلاق هذا المصطلح على سيده. لكنهما مع الحريري ما فتئوا يراهنون في الجوهر على وقت لا يكون فيه الا فرنجية مرشح الامر الواقع، خصوصا اذا ما بدأت تترسخ اكثر فاكثر بوادر التسوية في سوريا.