IMLebanon

ورقة الصين العربية والفرص الضائعة

تختلف الآراء حول أوضاع الصين في الوقت الراهن. فهناك من يتوقع أن تمر الصين بأوضاع اقتصادية صعبة بالمقارنة مع الأعوام الماضية. وهناك من يتوقع أن تستدرج الصين إلى توترات إقليمية تعرقل صعودها الدولي. في كافة الحالات كانت الورقة الأولى التي أصدرتها الحكومة الصينية حول سياستها العربية قبل أسابيع عملاً مهماً ومفيداً. فالورقة رسمت إطاراً موفقاً للعلاقات الصينية-العربية، وهي تصلح أساساً للتباحث والتفاوض حول هذه العلاقات. كما أن المسؤولين الصينيين لن يجدوا أفضل منها لكي يستعين بها الرئيس الصيني شي جين بينغ في جولاته المقبلة في المنطقة العربية.

تستحق «ورقة الصين العربية» أن يدرسها أهل القرار في العواصم العربية باهتمام، وأن يبدوا ملاحظاتهم عليها بعناية، وأن يأخذوها في الاعتبار وهم يخاطبون الصين. وفي هذه الحال من السهل على المرء أن يدرك أن هناك فرقاً واضحاً بين دولة صديقة مثل الصين، تمد يدها إلى العرب، ودول أخرى كبرى لا تأبه كثيراً لبناء الصداقات مع الدول العربية، ولا تقيم وزناً كبيراً لمخاوف العرب ومشاغلهم الأمنية والحياتية، ولا تحنّ، كما تفعل بكين، إلى التاريخ المشترك الذي يمتد إلى آلاف السنوات، والقريب الذي لا تزال ذكراه حية في الخاطر.

كما تتضمن الورقة تذكيراً بالحضارات المشتركة، فإنها تركز على التعاون الصيني-العربي في الحاضر والمستقبل وتتطلع إلى يوم يتحقق فيه السلم بين وداخل الدول العربية. وتدعو الورقة إلى تأسيس العلاقات الدولية على قاعدة النفع المتبادل بدلاً من أنماط العلاقة القديمة القائمة على «الصفرية» بحيث ما تربحه دولة تخسره أخرى والعكس. والنفع الذي تسعى الورقة إلى تحقيقه لا ينحصر في مجال الربح المادي فقط بل يشمل الغنى الروحي والثقافي والعلمي والابداعي. وإذ يلمس المرء في ورقة الصين مشاعر ودية وتضامنية مع العرب، فإنه يتساءل عما إذا كانت الدول العربية اليوم مهيأة للتجاوب مع الرغبات الصينية المعلنة. إن الصين تتحرك اليوم وكأنها أشعة ليزر مصوبة بدقة بالغة الإحكام إلى أهدافها التنموية، فهل تستطيع الدول العربية ملاقاتها في هذا المسار؟ هل تتمكن هذه الدول من الاستفادة من الفرص التي تقدمها لها الصين، أم تضيع هذه الفرص في غمرة الحروب والانهيارات السياسية والأمنية والأخلاقية التي تتعرض لها المنطقة العربية؟

لقد قدمت ورقة الصين كماً واسعاً من المشاريع ومن مجالات التفاهم والتعاضد مع العرب، يصعب حصرها في مقال قصير، ولكن هذا لا يمنع من اختيار عينات رئيسية منها تأكيداً على أهمية عروض التعاون التي تقدمها بكين للدول العربية. ولعل أهم هذه العينات ما يتصل أساساً وقبل أي شيء آخر في اختيار نمط العلاقة بين الصين والدول العربية. وتدعو الصين هنا الدول العربية إلى قيام علاقات ذات طابع استراتيجي بين الطرفين. بل إن الورقة تنوه بأن هذه الدعوة ليست جديدة، فقد استخدمت لأول مرة بين الدول العربية والصين عام 2004 عندما تأسس منتدى الحوار الاستراتيجي العربي-الصيني، ومنذ ذلك التاريخ وهذا المصطلح قيد الاستخدام في العلاقات بين الجانبين وفي مناسبات عدة.

ولكن ما نلمسه في الورقة أن الصين اليوم تقترح على الدول العربية علاقة من نوع استراتيجي جديد، أي أنه من النوع الذي يسمح للطرفين بتوظيف طاقات «فاعلة» في خدمة الهدف الاستراتيجي. فضلاً عن ذلك فإنه في الوقت الذي تدعو بكين إلى قيام علاقات صينية-عربية، فإنها لا تشترط على أية دولة عربية أن تتخلى عن علاقاتها الوطيدة مع الدول الأخرى الكبرى. هذا الموقف المرن يمنح الدول العربية الفرصة لكي ترفع علاقاتها مع الصين إلى مستوى استراتيجي حقيقي. أما إذا تلكأت الدول العربية في النظر إلى العروض والمشاريع الصينية والاستجابة إلى ما يفيد المصالح المشتركة بين الطرفين، وإذا خاطبت هذه الدول الصين بينما هي تريد من وراء هذه المخاطبة الضغط على دول الغرب حتى تكف عن توجيه الانتقادات إلى الدول العربية، فإن الأرجح أن تفوتها فرصة الاستفادة من هذه العروض.

من العينات الرئيسية للمشاريع والمواقف التي تستحق التوقف والتأمل هو الموقف تجاه القضايا العربية الوطنية وأهمها قضية فلسطين وقضية العمل العربي الجماعي. على الصعيد الفلسطيني تنتقي الورقة بدقة كلمات المؤتمرات والمؤسسات الشرعية الفلسطينية لكي تعلن مساندتها لقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وذات سيادة كاملة على أرض فلسطين على أساس حدود عام 1967. إلى جانب ذلك تؤكد الورقة دعم الصين الجهود التي تبذلها الدول العربية من أجل تعزيز وترسيخ وحدتها وتوطيد تجارب الحوكمة الجماعية في هذه الدول. هنا أيضاً نجد أن هذا الموقف جيد وجدير بالتنويه لأنه ليس جديداً ولم يتنازل عنه الصينيون. ولكن هذا الموقف اليوم، على أهميته المطلقة، يمثل فرصة ضائعة. فالصين بخير ولكن الجسم الفلسطيني منقسم على نفسه انقساماً غير قابل للعلاج. وهي أيضاً فرصة ضائعة لأن مؤسسات العمل العربي المشترك هي أيضا عرضة للشلل وللانقسام.

أخيراً لا آخراً، فإن من العينات التي تستحق الاهتمام والتي تقدمها بكين إلى الدول العربية مشروع الصين التاريخي لاعادة بناء طريق الحرير من أراضيها وصولاً إلى أوروبا. وتمر هذه الطريقة عبر ثلاث مناطق رئيسية: الأولى هي الطريق الشمالية التي تنتقل من الصين عبر جمهوريات آسيا الوسطى ثم إلى بحر قزوين والبحر الأسود، والطريق الجنوبية الغربية التي تمر عبر تايلاند والتيبيت وبنغلادش، وأخيراً الطريق الجنوبية التي تمر عبر الدول العربية وباكستان.

تعبر الورقة الصينية عن التزام بكين بالعمل على بناء هذا الطريق العظيم براً وبحراً. لقد نشر العرب، مع غيرهم من الشعوب، حضارة زاهرة بخاصة بين القرنين الثامن والثاني عشر فانتعشت التجارة بحيث تحول الدرهم العربي إلى النقد الدولي لذلك العصر، وانتشرت الزراعة بأساليبها المتجددة في الأراضي التي مر بها طريق الحرير، وازدانت المدن بالعمران والفنون ومظاهر الإبداع. أما اليوم فإن الصين على استعداد للإسهام الاستراتيجي مع الدول العربية، كما تقول الورقة في تعمير «البنى التحتية، تسهيل التجارة والاستثمارات والمال، وتنمية الزراعة والطاقة والعمل على توفير الخير والتقدم لشعوبنا معاً».

أثبتت الصين أنها قادرة على أن تنفذ الكثير من وعودها. السرعة التي انضمت بها دول أوروبا الكبرى إلى «البنك الصيني للبنى التحتية» بعد تأسيسه خلال الأسابيع الماضية تقدم دليلاً ملموساً على صدقية الصين. ولكننا هنا أيضاً نقف أمام فرصة ضائعة تتمثل في الحروب الهمجية التي تجتاح المنطقة. إن هذه الحروب إذا استمرت لن تضع حداً لمشروع طريق الحرير، ولكن من الأرجح أنها ستحث المسؤولين الصينيين على إعادة النظر في خريطة الطريق بحيث تمر عبر المسارين الشمالي والجنوبي الغربي، أما المسار الجنوبي، الذي يضم الدول العربية فإنه من المستبعد أن يقرب طريق الحرير في المستقبل المنظور.

لعله يقال تعقيباً على بعض محتويات ورقة سياسة الصين العربية أنه «ما ينفع المرء لو ربح العالم وخسر نفسه». وقد يكون هذا التعليق الأخير في محله لولا أن الدولة المعنية هي الصين وما تعبر عنه تجاه الدول العربية، وما يتجمع في يديها من طاقات وقدرات تؤثر بها على المجتمع الدولي. إن الصين لا تحول المنتصر إلى مهزوم، والجسيم العليل إلى جسم صحيح ولكنها تستطيع أن تساعد بصورة أكثر فاعلية على إنقاذ المنطقة العربية من حروبها، فإذا شفيت كان باستطاعتها أن تستجيب لنداءات ورقة الصين العربية، أي أن تنهض المنطقة العربية من عثرتها وأن تتعاون مع الصين على بناء عالم سلم وأمان وازدهار.