التكهّنات التي راجت قبيل الانتخابات النيابية حول التأخير في تشكيل الحكومة كانت مُحقة وصائبة.
في الرابع والعشرين من أيار الماضي جرى تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة، ورغم مرور أكثر من خمسة أسابيع ما تزال ولادة الحكومة العتيدة في حاجة الى مزيد من الوقت وربما لخمسة أسابيع اضافية.
وفي الحسابات الفعلية، إنّ المشاورات حول تشكيل الحكومة قد تكون بدأت قبل إعلان رئيس الجمهورية تكليف الحريري، لوضع تصوّرات أوّلية وجسّ نبض الفرقاء الأساسيين عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات النيابية وخريطة التوازنات الجديدة في المجلس الجديد.
والثابت أنّ الخلفية الاساس التي تشكّل حاضنة العقد التي تعرقل التأليف، تتعلق بالتوازنات النيابية الجديدة وتثبيتها وترجمتها على مستوى تركيبة السلطة التنفيذية.
الأسابيع الخمسة التي مرّت شهدت نزاعاً عنيفاً حول ما عُرف بالعقدة المسيحية، والتي هي في حقيقة الامر نزاع حول تثبيت دائرة نفوذ ما بين رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع. كباش عنيف دخل على خطه رئيس الجمهورية بشكل واضح ومباشر وأطاح بكل الروابط التي كانت لا تزال موجودة ولو بالشكل بين القوّتين المسيحيتين ووصلت الى حدّ الكشف عن أحد أهم بنود اتّفاق معراب، وطبعاً كل ذلك بخلفية الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وخلال الكباش، تواصل الرئيس سعد الحريري مع قيادة «حزب الله» عبر قناة جديدة بعد إعفاء نادر الحريري من مهامه، سائلاً: هل تريدون ولادة سريعة للحكومة؟ وجاء الجواب: نريدها ولادة أسرع من السريع، واليوم قبل الغد.
الحريري الذي كان يقف عند طلب سعودي بعدم تجاوز مطالب سمير جعجع المتعلقة بالحكومة، سأل قيادة «حزب الله» ايضاً ما إذا كان لديها اعتراض على إيلاء موقع نيابة رئاسة الحكومة لوزير قواتي وجاء الجواب: «نحن لا نؤيّد ولا نعارض. اسألوا رئيس الجمهورية».
وسارع الحريري طالباً من «حزب الله» مساعدته في تذليل العقبات مع رئيس الجمهورية. وكان جواب قيادة الحزب: «نحن لن نتدخّل، وأنتم قادرون على تدبّر الموضوع».
في هذا الوقت كانت السجالات بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» تبلغ ذروتها وتصيب في دربها العلاقة بين رئيس الجمهورية والرئيس الحريري.
وفي النهاية استقرّت التسوية حول العقدة المسيحية وفق التالي: أربعة وزراء لـ»القوات اللبنانية» دون أيّ حقيبة سيادية أو نيابة رئاسة الحكومة، في مقابل إعطاء «القوات» حقيبة وزارة العدل ووزير دولة. أما الحقيبتان الثالثة والرابعة فستخضعان لحسابات اللحظات الاخيرة. لكنّ «القوات» ستحاول الفوز بحقيبة ثانية اساسية، إلّا أنّ حسابات رئيس الجمهورية تدور حول حقيبتين عاديّتين.
ومن المفترض أن يزور رئيس «القوات» قصر بعبدا خلال الساعات المقبلة ليعلن من هناك تجاوز العقدة المسيحية.
وخلال المفاوضات طالبت «القوات» بحقيبة الدفاع، إلّا أنّ رئيس الجمهورية تحدث عن عدم وجود موافقة من كل الاطراف لحقيبة تُعنى بدور حساس ما يستوجب حصول موافقة من كل الاطراف الاساسية حولها.
وفيما كان العمل جارياً لحلّ العقدة المسيحية، كانت المساعي قائمة لحلّ العقدة الدرزية، وتولّى مدير عام الامن العام اللواء عباس ابراهيم الدور الاساسي في هذا الاطار. ويبدو أنّ تفاهماً حصل مع الامير طلال ارسلان يقضي بأن يدخل هو الحكومة في حال إسناد حقيبة له. اما في حال إسناد وزارة دولة وهو غالب الظنّ فإنه سيوافق على اشراك شخصية درزية تُعتبر قريبة منه ومن المختارة في آن معاً. هذا التفاهم يشق طريقه للتطبيق ولو انه لا يزال يحتاج «للمسات أخيرة».
ومع تذليل العقدتين المسيحية والدرزية اعتقد كثيرون أنّ الحكومة على قاب قوسين من الولادة. لكنّ تشكيل أول حكومة بعد الانتخابات النيابية التي أجريت وفق قانون انتخابي جديد لا بدّ أن يكون لها قواعد جديدة وركائز سياسية مختلفة عن سابقاتها، وتعكس بطريقة أو بأخرى التحوّلات الجذرية التي أنتجها القانون الانتخابي الجديد.
قيل إنّ الرئيس سعد الحريري قادر على أن يتحمّل كل شيء إلّا تأمين مقعد وزاري للنواب السنّة من خارج تيار «المستقبل». وقيل أيضاً إنّ الحساسية السعودية عالية تجاه هذا الامر، وإنّ احدى نقاط اللوم السعودية تجاه قبول الحريري بالقانون الانتخابي الجديد كانت باحتمال تشريع وجود سنّي خارج العباءة السعودية.
وخلال الاسابيع الماضية بدا الحريري مطمئنّاً تجاه هذه النقطة، ولكنّ الإطلالة الاخيرة لأمين عام «حزب الله» لا بد أن تكون قد بدّدت اطمئنانه. البعض حاول تفسير كلام نصرالله بأنه من باب رفع العتب والقول إننا حاولنا ولكننا محشورون بسرعة ولادة الحكومة.
إلّا أنّ المطّلعين سرعان ما أوضحوا أنّ مواقف امين عام «حزب الله» لم تتضمّن يوماً ايّ مناورة أو مواقف رفع عتب، بل إنها تعبّر عن مواقف سياسية لم يسبق أن تراجع عن أيٍّ منها.
اضف الى ذلك تلويحه بالذهاب أبعد في حال عدم تعميم المعايير المتّبعة على الجميع وهو يقصد بذلك وجوب إعطاء مقعد وزاري على الاقل لنواب المعارضة السنّية الذين اجتمعوا وتوافقوا فيما بينهم على قبول تمثيلهم بأيّ واحد يجري اختياره من بينهم.
اضافة الى ذلك، يصرّ الحزب «السوري القومي الاجتماعي» على دخول الحكومة. وهذه عقدة اضافية ستظهر خلال الايام المقبلة، الى جانب عقدة توزيع الحقائب بعد الانتهاء من العقدتين السنّية و«القومية». في حسابات الوزير جبران باسيل أنّ نيابة رئاسة الحكومة حُسمت لشخص محسوب عليه سيتولّى ايضاً وزارة الدفاع، كما أنّ الخارجية ستبقى من حصة «التيار الوطني الحر»، في مقابل المالية لحركة «أمل» والداخلية لتيار «المستقبل».
أما على مستوى الحقائب الاساسية وهي ستة، فإنّ باسيل يدعو الى تقسيمها الى ثلاث حقائب للمسلمين وثلاث للمسيحيين، وفق التوزيع التالي:
الطاقة والأشغال والعدل للمسيحيين، ويتمسّك باسيل بالطاقة والاشغال لـ«التيار الوطني الحر» في مقابل توافق اصبح معروفاً بأن تكون العدل لـ«القوات اللبنانية». لكنّ المشكلة هنا تكمن في النزاع على حقيبة الاشغال مع قوى مسيحية بارزة اخرى.
الاتّصالات لـ«المستقبل»، الصحة لـ«حزب الله». والتربية التي تشهد تجاذباً حولها.
وفي المقابل، باشر الرئيس الحريري بهجومه المضاد وجاء إجتماع الرؤساء السابقين للحكومة بأبعاده ومضامينه كبداية مرحلة الردّ.
باختصار ولادة الحكومة ليست قريبة.