بقلم المطران عطالله حنّا مطران سبسطية للروم الأرثوذكس
} يا أحبّة }
ابارك لكم بفترة الصوم المبارك، وقد منحنا إياه كتابنا العزيز كعطيّة مباركة، لنتخلّى عن كلّ استكبار مقيت فينا، ولنتّجه نحو تواضع العشّار وتوبة الابن الشاطر، ولا نطلب في هذا الزمن سوى الرحمة رحمة الله وبركاته. والرحمة صفة طيبة من صفات الله الحسنى والعظيمة والمنسكبة فينا وعلينا.
أن يكون الله رحيمًا فهذا يعني أنّه المحبّة. وقد قال لنا يوحنّا الرسول بأن الله محبّة. فلا رحمة من دون محبّة، ولا حنان من دون محبّة. لعلّ أجمل ما نكتشفه معًا في بهاء الصيام، وفي ذروة الظرف الحالك والرّهيب الذي نمرّ به، لطف الله وطراوته بتلك المحبّة الفيّاضة والجيّاشة المتدفّقة كالمياه العذبة من لدنه الأكرم. فتغسلنا من آثامنا، وتطهرنا من أمراضنا، وتمنحنا القوّة والثبات، وتحفّزنا على ديمومة الجهاد، وتذكّرنا بأنّها مبذولة دومًا لأجلنا من خلال يسوع المسيح وهو على وجه التحديد غاية صيامنا.
لا يدرك الرب يا أحبّتي فقط طقوسيًّا، مع التأكيد على غنى الكنيسة الأرثوذكسيّة بها. فهي بانسيابها العذب فائقة الجمال، تعيننا على فهم إيماننا، وعلى تذوّقه بهذا الجمال عينًا، تمامًا حين ينظم شاعر كبير قصيدة رائعة مغناة، فتتلوّن وتتغلّف أبياتها بألحان جميلة تساعدنا على فهمها مغناة بصوت جميل تتلذّذ بسماعه آذاننا ويحفر عميقًا في نفوسنا. وعلى الرغم بتسليمنا بأهمية الجمال كسطوع للحقّ فينا وفي دنيانا، لكنّ كلّ جمال وخير وحقّ سترونه متجمّعًا بألوانه وأنواعه بجسد يسوع المديد على الصليب. كمال الرؤيا وكمال الجمال بل جمال الكمال، مبثوث في أيقونة الصلب بقوّة تعبيرها، وفي تأملنا لها في هذا الموسم الطيب، نكتشف كم أنّ الله محبّة، وكم أنّ الخير والحقّ والجمال أقانيم لتلك المحبّة الصارخة بدم يسوع المهراق لأجل خلاص العالم. وفعل ذلك يتبيّن ويظهر بالقرابين الإلهيّة التي تستحيل في القداس الإلهيّ جسد يسوع ودمه، حيث في القداس الإلهيّ يصير يسوع نفسه حياة لكم وشفاء من أمراضكم.
مع اقتحام فيروس الكورونا احياتنا وعالمنا، لا بدّ حتمًا من احترام الإرشادات الطبيّة الحامية لنا منه ومن تداعياته علينا، والتي تستند إليها الحكومات في العالم حتّى تحدّ من أضراره. علينا ان نفهم وندرك في هذا المقام، أن مواجهته عبر تلك الإجراءات، تسقط أمام حالات الهلع والخوف المتراكمة في أحيائنا وبين بعضنا وفي قرانا ومدننا. مقاومة المرض، أيّ مرض كان، سواء كان تلقائيًّا أو نتيجة فيروس مصنّع، أو نتيجة تسمّم، يواجه بالتصميم الفكريّ والبشريّ وليس بالتلاشي والتزعزع، كما يواجه بالإيمان واليقين بأننا محضونون بالنعمة الإلهيّة بدءًا ومنتهى. التسليم بوجود الله بالثالوث القدوس في حياتنا يعنينا ويعيننا أكثر لكي لا تخشى ونجزع ونهلع. «لا تخف لإني معك»، أنا معكم إلى انقضاء الدهر. ليس الله مسؤولاً عن امراضنا ولا هو سبب لوجودها فينا فتقضّ مضاجعنا. كلّ تاريخ يسوع المسيح في الكتاب المقدّس بجزئه الكبير مواجهة المرض بالشفاءات التي حقّقها، وقد قرأنا في الأحد الثاني من الصوم كيف قال للمخلّع مغفورة لك خطاياك، وبعد جدل حول ما إذا يحقّ له أن يغفر الخطايا قال له لك أقول قم احمل سريرك وامشِ. هذا قام وحمل سريره ومشى.
ترى وفي زمن الكورونا البغيض والكريه، هل سنفهم بأنّ يسوع المسيح يحثّنا لكي ننهض من هذا التخلّع الذي أصبنا به ليس نتيجة الفيروس المستجدّ بل نتيجة الخوف؟ الكنيسة يا إخوة هي المستشفى الروحيّ الكبير الموازي للمستشفى الجسديّ والطبيّ. جزء كبير من المعافاة يتمّ روحيًّا، وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ المعاصر، والحديث عن مرضى تغلّبوا على أمراضهم بواسطة الإيمان والإصرار على كسرها. الخوف والهلع يجعلاننا أسرى الأسرّة والحجور التي يضعون مرضى الكورونا في داخلها. لقد بات الناس يخشون من بعضهم البعض، لدرجة أن صديقًا كبيرًا اخبرني بأنّ جاره كان يزورهم صبحًا مساءً بصورة يوميّة ويعتبر منزلهم كأنه منزله، ليروه عازلاً نفسه عنهم بسبب الخوف من انتقال العدوى. أؤكّد بأن الحماية ضروريّة للغاية، ومن يعرف نفسه مريضًا بالكورونا عليه واجب أخلاقيّ بأن يبتعد عن أصدقائه حتى لا يصدّر لهم العدوى ويؤذيهم، وعليه أن يخضع للعلاج الفوريّ لأجل شفائه، ولكنّ الواجب الأخلاقيّ بالمقابل أن لا نفقد صلتنا به بسبب خوفنا منه، بل أن نكثّفها معه بسبب محبتنا له وتشديدًا له في ضعفه. هذه قاعدة أخلاقية يجب اتّباعها في التعاطي الإنسانيّ وبرقّة تامّة. وبرأيي، إنّ العزل لا يجب أن يطبّق على ذوي المريض بالكورونا، بل على العكس تمامًا، يفترض أن يعتصموا بإرشادات الأطبّاء، وأن يسمح لهم بلبس الألبسة المعدّة والواقية من العدوى، فيعقّمون أنفسهم، ويدخلون إلى المريض ويطمئنّون عليه، ويساعدونه بالمحبّة والحنان على المقاومة الفعّالة، ويؤمّنون وسائل الدعم المعنويّ والروحيّ، ويصلّون له متذكّرين كلام يعقوب الرسول: «إنّ طلبة البارّ تقتدر كثيرًا في فعلها»
} يا أحبّة }
قبل حلول فيروس الكورونا علينا ضيفًا ثقيلاً ومتوحّشًا للغاية، لاحظنا بأنّ العلاقات في مشرقنا بصورة عامّة، آيلة إلى التمزّق والتحلّل بالعمق القيميّ والروحيّ والوجدانيّ، ومنحصرة ومتحرّكة في الشقّ الماليّ والمصلحيّ. ولاحظنا تمزّقًا خطيرًا وبنيويًّا على مستوى الأسر في علاقة الأزواج ببعضهم والأبناء بالآباء والعكس أيضًا. لقد بدأنا نخلو من التلاقي الوجدانيّ داخل الأسرة الواحدة، وكان لصديقي العظيم المطران جورج خضر قول رائع، بأنّ المسيح يخاطب نفسه بين الرجل والمرأة وبين الأهل والأبناء. وفي مكان آخر قال سيادته أننا بتنا مسيحيين بلا مسيح، لكون التمزّق يجعلنا مسيحيين بلا مسيح. هذا التلاقي الطيّب بدوره نراه متلاشيًا في العالم وما بين الناس، والتلاقي يعبّر عن التعاطف والتعاضد والتآزر. هل تتذكّرون بأنّ أجدادنا قديمًا في القرى كانوا يتآزرون في الأحزان والأفراح، في مشاريع العمار، وقد دلّت البيوت القرمديّة والحجريّة والعقد والقناطر على قوّة التآزر، كانوا يتعاونون في مواسم الخير والجنى والبركة والزرع والحصاد، لماذا يا ترى قد بدأنا نفقد مبدأ العونة فيما بيننا؟ لماذا لم نعد نرى الناس حول بعضهم ومع بعضهم، ألا يدلّ ذلك إلى أننا أهملنا محبتنا لبعضنا البعض، كما أهملنا تعلّقنا بالأرض، ألم يؤدّ ذلك يومًا إلى ضياع فلسطين منّا كما إلى تخبّط المشرق بصورة عامّة بأزماته الكبرى كما حصل في معظم بلدانه، فكيف اليوم ونحن ضحايا هذا الفيروس المتكوّن من صناعة أميركيّة عامدة على قتلنا وتمزيقنا وتشتيتنا؟
هذا الفيروس، وكما كتب صديقي الحبيب المفكّر والكاتب جورج عبيد، منتم إلى منظومة الحرب الجرثوميّة بين الدول. لقد غزا العالم بأسره وفتك به، اقتحم أوروبا بعد آسيا وهو الآن مستقرّ في أميركا حيث تمّ تصنيعه. الجميع باتوا متساوين في الكارثة والمصيبة، الأقوياء والضعفاء، الأغنياء والفقراء، الرؤساء والحكام والناس، المسيحيون والمسلمون، المؤمنون والملحدون، لا فرق بين لون وآخر، الجميع وحدتهم كارثة الكورونا وأرعبتهم، الحركة توقفت بالكامل وتحوّلت إلى جمود قاتل، الكون تحوّل إلى حجر خانق من بعدما كان قرية كونيّة واسعة. طابخ السّم آكله. وهو متساو مع من جلده واستهدفه، الجميع باتوا يفتشون على قارب النجاة. الكورونا وباء كونيّ، ولا بدّ من العمل للإجهاز عليه، والمعلومات عندنا أنّ العقاقير أو ما يسمّى Antidote أي اللقاح بدأت بالتواجد تدريجيًّا في الصين وأميركا وهناك تجارب واختبارات سيعلن عنها قريبًا. أنا لا أفكّر يا أحبّة بهذا الفيروس وانعكاساته الفوريّة لأنها حاصلة وموجودة، ونحن نكتوي منها، أنا أفكّر بعالمنا بعد الكورونا ليقيني بأنّه لن يدوم طويلاً. أفكّر بالانعكاسات النفسيّة المتراكمة في داخل كلّ إنسان بسبب من الخوف والهلع، أفكّر بالعلاقات بين الناس في منطقتنا حيث قد تفقد صداقات بينهم لتستبدل بالخوف والهلع. قيمتنا في هذا المشرق بدءًا من فلسطين إلى الأردن إلى سوريا ولبنان والعراق بإلهنا غالب الموت، وببعضنا البعض، ليس واحدنًا بسبب من الكورونا جحيمًا للآخر، بل هو متنفّسه لأنه يجيء وإياه من محبة الله الواحدة.
صحيح يا إخوة أننا مدعوون لأخذ الحيطة والحذر والتطهّر بالتعقيم والنظافة، هذا دومًا ما ندعو إليه في الأيام العاديّة، فكيف ونحن في هذا الظرف الدقيق؟ الله بمحبته يدعونا دومًا إلى العافية والسلامة الشخصيتين، وهذا كما قلت يستدعي منّا أن نلازم بيوتنا مع استفقادنا لبعضنا. لا تقطعوا علاقاتكم ببعضكم، بل احفظوا بعضكم بعضًا برباط المحبّة والسلام، إحملوا أثقال بعضكم البعض كما قال بولس الرسول، فمن ينقص ولا أنقص أنا. ذلك لأنّ الخطّة المبيّتة بجزء منها هادفة لضرب وحدتنا في العالم لا سيّما في هذا المشرق.
لكنّ الأخطر ان يتبلور جزء من الخطّة لضرب حياتنا المسيحيّة مع قرار إيقاف الصلوات في الكنائس في زمن الصيام المبارك. نحن مع تعقيم الكنائس وأخذ الحيطة والحذر فيها، ولكن ما معنى أن تتوقّف الصلوات؟ من يستطيع الحضور فليحضر ومن يخاف فليصلّ في بيته. يقول يعقوب الرسول: هل فيكم مريض فليدع قسوس الكنيسة ويدهنوه بزيت باسم الرب. ليس الحضور إلزاميًّا بهذا المعنى، إنه اختياريّ. الله موجود في قلوبنا وفي كلّ مكان نحيا فيه، إنه مبدئ التاريخ ويبيت فيه وغير منفصل عنه، كما هو جزء من حياتنا الفرديّة والأمميّة وغير منفصل عنها. من يعرف نفسه قادرًا على الصلاة قليتفضّل ومن يخشى من وجود مرضى بالكورونا فله الحقّ بالانتباه على نفسه. لماذا نحوّل مسألة فتح الكنائس وإغلاقها إلى أزمة ومن ثمّ نجعل علاقتنا بالله مأزومة؟ الله يا إخوة معطي الحياة، وهو الشافي من أمراضنا. علاقتنا به ليست طقوسيّة، لأننا نستحبه في الطقوس أو نستحبّ الطقوس في هذا الزمن المبارك والمقدّس، علاقتنا بالله وجوديّة وهي تقوينا وتشفينا. لقد كشفت أزمة الكورونا بأننا في صلب أزمة روحيّة خطيرة مرتبطة بعلاقتنا بالله ومسيحه. كشفت بأننا نحصرها في الطقوس فيما المسيح حياتنا جميعًا. «ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا حينئذ تظهرون معه في المجد» كما قال بولس رسول الأمم.
إسمحوا لي بأن أعود إلى مقطع من عظة لصديقي المطران الحبيب جورج خضر، وقد قال: «من لا يؤمن بأن المسيح حيّ الآن وليس قبل 2000 سنة، ومن لا يؤمن بأنّ المسيح يحييه شخصيًا مع عائلته وأولاده يكون هذا قد قال بأن المسيح قد ورد ذكره فقط في الكتب، المسيح ليس في الكتب بل هو في أمعائكم في قلوبكم في عيونكم، إن لم تتقبّلوه هكذا يكون إنسانًا قد مات منذ ألفي سنة. المسيح حيّ الآن، إفهموا ذلك تعمّقوا بذلك عيشوا من ذلك تكون لكم الحياة.» ليس موجودًا في الكتب، المسيح موجود فيك، موجود في العالم. وهنا نقول المسيح ليس قائمًا فقط في الهيكل إنما في القلوب، لكنه موجود في الهيكل، وأنت تأكله في القرابين كما تأكله في الكلمة. من هنا أرفض إغلاق الكنائس في هذا الزمن العظيم، أرفض أن لا نقيم صلاة النوم الكبرى ويكون عندنا القداس السابق تقديسه ومديح والدة الإله وقداس الأحد، ولكن أيضًا أنا مع أن ينتبه كلّ منّا إلى وضعه وصحته. لست داعية تهوّر في هذا الخصوص. أؤكّد بأنّ الحضور غير ملزم في هذا الظرف، ولكنّي في الوقت نفسه أرفض في هذا الزمن عدم الشهادة للمسيح يسوع في كلّ صلوات هذا الموسم الطيب.
ختامًا أوصيكم بالانتباه إلى صحتكم وعافيتكم لا تزدروا بها أمام فيروس الكورونا الخطير. في مقابل ذلك أيضًا لا تزدروا بإيمانكم وشهادتكم بالمسيح هنا في فلسطين وطنه وفي المشرق جسده. وازنوا بين العافية التي يأمرنا بها الرب، والشهادة التي هي خصوصيّة مقدّسة تعنينا بالقوة والفعل. إياكم أن تخافوا لأنّ الخوف يعميكم ويقتلكم معنويًّا وروحيًّا. فأجسادنا دائمًا معطوبة بالأمراض، المهم مكافحتها بالعزم والإرادة والانتباه. لا تجعلوا من هذا المرض مادة خوف من الآخر، فيصير لكم جحيمًا. ألم يصادف أن مرضنا جميعًا بالكريب أو ذات الرئة أو ما شابه ذلك؟ ألا يأتي كل ذلك من عدوى؟ إذا كان أحدهم فاقدًا الأخلاق والذوق والعناية من هذه الناحية فلا تحقدوا عليه، وليس كل من عطس أو سعل يعني أنه مريض بالكورونا. لا تحوّلوا هذا الفيروس إلى أزمة خوف تجتاحكم، إنه قابل للعلاج وقادرون على قهره، وسيقهر قريبًا بإذن الله تعالى.
الصلاة والعافية والانتباه إلى كل أخ مسلمات أمرنا به الرب يسوع. لا تفقدوا العلاقات مع بعضكم بسبب الفيروس، حافظوا عليها، ولو من منازلكم. وبعد القضاء عليه سنفهم اننا جميعنا بحاجة إلى المحبة تقوينا وتدفعنا إلى كلّ خير وبرّ وصلاح وعافية وشفاء.
ألا حفظكم الله معافين وأنقذ عالمنا من هذا الكورونا البغيض وأعطانا أن نبقى شهودًا على إيماننا به ليبقى ساطعًا ونابضًا في مشرقنا وسيدًا على حياتنا.
آمين