يصعب الفصل بين الكنيسة المارونية ولبنان الكبير، بعدما وضعها البطريرك الماروني الياس الحويك في مقدمة الحدث التاريخي. فحلم هذا «اللبنان» يعود إلى عام 1860، لكن التطوّرات والأحداث الدموية أطاحت به. إلى أن جاءت سنة 1920، حين «تحقق حلم الموارنة بإعلان دولة لبنان الكبير» كما جاء في المجمع الماروني عام 2006.
يمكن للحويك الراقد في دير العائلة المقدسة التي أسّسها في عبرين أن يكون في نظر رعيته قدّيساً يطلبون شفاعته، لكن النائم في عتمة الصمت الراخي ظلاله على الدير هو السياسي الأول في تاريخ الكنيسة الحديث. ذلك الكاهن الآتي إلى السدة البطريركية لم يدرك أنه في لحظة تاريخية سيذهب إلى باريس «رغماً من الستة والسبعين عاماً التي أحمل أعباءها قاطعاً أكثر من ثلاثة آلاف ميل لأدافع عن القضية اللبنانية المقدّسة»، والحفاظ على إرث لا يزال قائماً مع الكثير من المتغيرات. إرث بدأ الاختلاف حوله منذ تلك اللحظة، حين تصاعدت أصوات رافضة لمهمّة الحويك، لأنه «زعيم طائفة لا تمثّل في لبنان الكبير إلا الأقلية الصغرى»، بحسب ما وصفته القوى ذات التوجّه القومي العربي.
دور الحويك والكنيسة في التعامل مع لبنان المستقل، وكجامع للطوائف، هو نفسه الذي أداه الفاتيكان بعد سبعة وسبعين عاماً من خلال السينودوس من أجل لبنان والإرشاد الرسولي. كما أن صورة الحويك التاريخية قد لا تجد ما يضاهيها سوى صورة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وقد تميّزا عن غيرهما من البطاركة، وتصدّرا الصف الأول حين غاب الزعماء الموارنة، حاملين مشروعاً وطنياً. فمع الاستقلال والبطريركين أنطوان عريضة وبولس المعوشي، انطلقت تيارات وأحزاب سياسية، وبرز رؤساء موارنة بعصب قوي جعل من المستحيل على أيّ منهم التنازل عن دوره لصالح بكركي. ومع البطريرك انطونيوس خريش، عزّزت الحرب دور القادة الحزبيين والسياسيين، وانكفأ دور بكركي فتقدّمت الرهبانيات وفرضت حضوراً سياسياً شكل محطّة بارزة في التاريخ الرهباني.
كان يحلو لصفير أن يعود إلى البدايات فيقول عام 1990: «هناك حقيقة تاريخية لا سبيل إلى إنكارها وهي أن كنيستنا المارونية ونقولها ببساطة كان لها دورها الكبير في تكوين لبنان وما تميّز به من خصائص وما تفرّد به من ميزات». هذه العبارة، كانت ركيزة أساسية في المجمّع الماروني: «تحقق حلم الموارنة بإعلان دولة لبنان الكبير في حدوده الحاضرة، وهي تشمل الامتداد الماروني على عهد الإمارتين». أما الفكرة الأم التي عملت عليها البطريركية، فكانت تقوم على مبدأ التزام الموارنة بلبنان مع الطوائف الأخرى «فعلى هذا الأرض التي اتّسمت بتعدديتها اللافتة إن على الصعيد المسيحي أو الإسلامي سعت كنيستنا مع من ارتضى مشاركتها السعي نفسه أن تكون صاحبة رسالة محورها الإنسان في لبنان، مجتمع مؤمن بكرامة الإنسان وحفظ حقه في الاختلاف الديني والثقافي شهادة على الحرية وصون حقوقه السياسية الأساسية».
هذه كانت الصورة الذهبية، بعدما تلازم المشروع الوطني – السياسي مع النهضة التربوية والثقافية والفنية ودور النشر والإصلاح الديني الداخلي وانطلاق عمل رهبانيات ومؤسسات دينية. كلّ ذلك وسط مناخ الحرية والاستقلال والازدهار الاقتصادي والنقاش الحيوي، ما جعل الكنيسة تتغنّى بلبنان في الأدبيات والأناشيد فالتصق اسمه بكثير من التراتيل المارونية، ودخل في وعي الكنيسة كأحد إنجازاتها الوطنية.
بعد مئة عام، الصورة سوداوية، بعدما فقدت الكنيسة الدور والمشروع والحضور الدولي. وهي إذ تفتقد إلى الاعتراف بما لحق بها من تدهور، وإلى وضع استراتيجية عن كل مفاصلها التربوية والاجتماعية والصحية، وقد برز سوء أحوالها في الأزمات الأخيرة، يصبح المشروع السياسي في حاجة إلى مراجعة أدقّ.
يُخشى أن يتحوّل مشروع بكركي إلى مناسبة لضوء أخضر أميركي لمزيد من الكباش الداخلي
قد يكون البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي تقصّد مع فكرة الحياد مبادرة في مئوية لم يبرز فيها سوى احتفال الكنيسة بأناشيد سريانية ومارونية في الديمان، وكأنها عودة الموارنة إلى الوديان والجبال التي أتوا منها. لكن هذه الفكرة التي طُرحت في مرحلة يشتدّ فيها الضغط الأميركي، لم تؤتِ ثمارها المرجوّة، نتيجة عوامل تتعلق ببكركي نفسها وأدائها، وبحيثيات وضعتها في إطار تزخيم الضغط على العهد وحزب الله. وهنا يصبح الدور الفرنسي والأميركي لافتَين. صحيح أنّ مبادرة كهذه تحتاج إلى غطاء دولي، إلا أنّ اللافت أن الأميركيين كانوا يكثّفون رسائلهم إلى الراعي في إحاطة لافتة في توقيتها ومناسباتها. وهذا الجو مرشح لأن يكون بوصلة مستقبلية عن المدى الذي سيبلغه هذا الضغط وكيفية ترجمته عملياً. وهذا يخالف تماماً الجو الذي خلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته الثانية.
فبقدر ما وقفت فرنسا منذ مئة عام إلى جانب الكنيسة، التي تحتفل سنوياً بقدّاس على نيتها، ابتعد ماكرون عن طروحات الراعي، رغم بعض التأويلات في زيارته الأولى. صحيح أن الراعي خرق كثيراً من البروتوكلات، وسبق أن التقى وزير الخارجية الأميركي جون كيري في مطرانية بيروت للموارنة عام 2014 لأسباب أمنية، لكن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس زارت بكركي عام 2006، والرئيس الفرنسي جاك شيراك زارها. ثمة فارق بين أن يمتنع الرئيس نيكولا ساركوزي عن زيارتها بالمطلق، وبين أن يتوجه الراعي إلى قصر الصنوبر أسوة بغيره من القيادات السياسية والثقافية والاجتماعية. إلّا أنّ القصة أبعد من ذلك. فماكرون دفن فكرة الحياد بمجرد أن رفض كل كلام عن الشق العسكري من حزب الله وسلاحه، ولم يتلفظ بكلمة عن أي قرار دولي لا 1559 ولا 1701، وتجنّب الكلام عن كل طرح يتعلق بالنظام وبتعديلات، وبلهجة تهدئة تختلف تماماً عن لهجته قبل شهر. التقط ماكرون فكرة الراعي، فنأى بنفسه عن كل التباس يمكن أن يُفهم منه انحيازه إلى طروحات تحتاج إلى توافقات دولية ليس الآن وقتها، في ظلّ تشدّد عربي خليجي وأميركي إزاء إعادة فرنسا تعويم ما تبقى من تسوية رئاسية بوجوه جديدة. وهذا ما يعيد الالتباسات حول مشروع بكركي الذي يُخشى أن يتحوّل إلى مناسبة لضوء أخضر أميركي لمزيد من الكباش الداخلي.