IMLebanon

باللحم الحيّ إكراماً لمواطني الحرية

قبل عشر سنين تماماً، في الساعة التاسعة والربع تقريباً من صباح مثل هذا اليوم، استُشهد الزميل الصحافي جبران تويني. لم يكن ثمة سببٌ علني أو مضمر لذلك القتل الهمجي سوى مواقف الرجل وكتاباته وجريدته، إذ أريد للاغتيال أن يفضي إلى تسديد الضربة القاضية، ليس إلى شخصه فحسب بل إلى معنى أن يكون المرء صاحب موقف. في اجتماع المحرّرين، وضع غسان تويني بنفسه مانشيت الجريدة لليوم التالي: “جبران تويني لم يمت و”النهار” مستمرة”. من هذين الاستشهاد والمانشيت، أستلهم هذه الافتتاحية.

مقاومة الموت، تستبدّ بالأحرار استبداداً يشبه استبداد العشق. هؤلاء الناس المشغولون، كلٌّ في مجال عمله، وعلى قدْر فاعليته، بمقاومة الموت، أنواعه، وأدواته الترهيبية، الداخلية والخارجية، المادية والمعنوية، وحرابه الظلامية الدينية والأمنية العسكريتارية، يرون أنفسهم “صاغرين”، لكنْ بكبرياء، وأنفة، ولذّة، أمام “القَدَر” المذهل، الذي يجعلهم – هم الذين لا يرضخون لسلطان – يرضخون لـ”استبدادِ” مقاومةِ الموت. فيا لهذا الاستبداد المعبود. مستمرّاً إلى النهاية. بلا تراجع. وبلا خيانة!

هؤلاء ينتمون إلى ثقافة الحرية، وإلى إرثها المديد؛ في الحياة مطلقاً، في الفكر، في الحياة المدنية، في الصحافة، في الثقافة، وفي الثقافة السياسية. فما أجملهم!

مقاومة هؤلاء للموت، خلاّقة، لذيذة، مثيرة، مستفزّة، شبقة، حالمة، مضنية، متعبة، مؤرقة، موجعة، محبطة، ميئِّسة، ساطعة، مظلمة، بل قاتلة.

بقدْر ذلك، هي مفخّخة، خطيرة، ومجانية. ثمّ يصل المرء، في لحظةٍ ما، إلى الإحساس الغامر بالوحشة. بالعبثية. باللاجدوى. وبالعدمية الماحقة. لكنه لا ينتبه. أو هو لا يأبه. بل ينتبه ويرفض التراجع، مواصلاً الحفر في العدم!

هذا الأتون، هذه اللذّة الممزوجة بالأمل المستحيل، هذا السعير كلّه، يساور الكاتبَ الحرّ، في الآن نفسه، حتى ليشعر بأنه لا يقاوم موتاً عدوّاً، آتياً إليه من “خارج” فحسب، بل يقاوم خصوصاً، وبالقوة نفسها، موتاً صديقاً، يهاجمه من “داخل”.

إنها الحرب، حربُ مقاومةِ الموت، يا عزيزي الكاتب. إنها الحرب، باعتباركَ أرضاً لها، حبرَها وجسدَها. في حربٍ كهذه، أنتَ تقاوم الموت، الذي يأتيكَ بأنواعه وأشكاله وأسمائه، من الجهات، ومن المعاني كلّها. هو موت الرأي العام، وموت القيم، وموت المعايير، وموت اللغة، وموت الأدوات، حيث إله السهولة والتساهل والتدجين والترويض والترهيب والقهر والفساد والانحطاط والرخص، وانقلاب المعطيات والمفاهيم والأزمنة، يضع يده على كلّ شيء، طالباً لنفسه السؤدد والسلطان. وطالباً رضوخكَ، واستسلامكَ، أنتَ أيها الحرّ. وأن تمشي في ركابه!

أنتَ عارفٌ بكلّ جوارحكَ، أيها الكاتب الحرّ، أنكَ أعزل تماماً. وخاسرٌ تماماً. لكن، على الرغم من ذلك، بل بسببٍ من ذلك، لا يمكنكَ أن تقتنع بهذه “المعادلة”. تقول في ذاتكَ: مستحيلٌ أن يكون الحرّ أعزل. مستحيلٌ أن لا يكون ثمة رأيٌ عام ومواطنون وشعراء وعشّاق، يقاومون معه. يوهم الحرّ ذاتَه بأنه لن يكون وحيداً في هذه الحرب. لكنه محض وهم، محض إيهام ليس إلاّ. إنه الإيهام الشاعر، الحالم، العاقل، الواعي، الممتلك أدواته، المدرك واجبه ومسؤوليته، يجعل الكاتب الحرّ المقاوم، المقاوم الموت، يؤمن ويقتنع بأنه ليس وحده، بل هو في جحفلٍ لجب.

هكذا يذهب الكاتب الحرّ إلى الحرب، حرب مقاومة الموت، ناظراً إليها بعينين قلبيتين، حيث لا يعود في مقدوره أن يرى شيئاً آخر، أو أن يلتفت إلى شيء آخر. أمامه الأفق كلّه، حيث يمكنه فقط أن يمارس حريته بالكتابة العزيزة، وأن يقاوم، على طريقة الذين صنعوا حرية “النهار”، المعلومين والمجهولين؛ عدّتُهُ سيزيف ودونكيشوت معاً، وجنودُهُ الصخرُ والهواء والحبر والجسد والحلم والحرية!

هذه هي صنْعتكَ أيها الكاتب الحرّ: أن تكتب ثقافة الحرية، وأن تقاوم. وأن تصنع من كتابتكَ ومقاومتكَ إرثاً صحافياً وثقافياً، تضيفه إلى ما تَرَاكَم من إرثٍ جليل. فليس لكَ أن تتبجّح، أو أن تزهو. ليس لكَ سوى وجدان الحبر. وهو وجدان الهواء، تشربه كلّه. وهو وجدان الينابيع، تتنشّقه كلّه. كما لم يسبق لكَ أن شربتَ، أو تنشقتَ.

* * *

ماذا يعني أن تكون منبراً ثقافياً حرّاً، في أزمنةٍ، تنزف فيها الحريةُ وهجها النبيل، ولا يعود لها “مردودها” الحاسم على أرض الواقع، بسبب تغيّر الأولويات وانقلاب المفاهيم، كما بسبب التعب، والتدجين، وتألّب الشرور والمغريات؟! يعني أن يكون المنبر صاحب مشروعٍ قائمٍ على تكريم اللذّة، لذّة ممارسة الحرية، ولذّة ممارسة ثقافتها. أن يبذل لذّتَه هذه، في حبره. وأن يواصل حفْر الباطن، بلا هوادة، وتكراراً، ومجاناً، ومن دون مقابل. أي، وفق المعنى “التجاري”، أن ينزف نزفاً شبيهاً بنزف الهواء والينبوع. أي أن لا ينتظر مردوداً أو ربحاً.

إنه، بوضوحٍ ملحمي صارم، مشروعٌ “انتحاري”. هذا هو الوصف الوحيد لهذا النوع من المنابر التي تمارس هذا النوع من ثقافة الحرية!

لكنْ، إذا لم تبذل لذّتكَ هذه، إذا لم تقامر بها، وتنزفها نزفاً، بلا هوادة، ومجاناً، وتكراراً، وكلّ أسبوع، فهل من صنعةٍ ثانية تحسن أن تفعلها، أيها المنبر الثقافي الحرّ؟!

لقد قلتُ شيئاً مماثلاً للهواء، على سبيل التأجيج والتحريض. الشيء المماثل نفسه قلتُهُ للينبوع: أيّ معنىً، لكما، خارج فعل تبديد اللذّة – وهي المقامرة المطلقة – التي لا تحسب حساباً لاستبقاءِ نقطةِ هواء، ولا لاستبقاءِ نسمةِ ماء؟! تصوّرْ أيها النبع أنكَ تختنق بمائكَ الذي قد تكون تستبقيه تحسباً لحاجتكَ غداً إلى ماء. وأنتَ أيها الهواء، تصوّرْ أنكَ تختنق بالهواء التي قد تكون تستبقيه لحاجتكَ غداً إلى هواء!

وظيفتكَ أيها الهواء، وأنتَ أيها النبع، أن يمنح كلٌّ منكما لذّته حتى مائها الأخير، وهو حشرجتها الرؤيوية الحرّة والمطلقة. هذه هي وظيفتكَ أيها المنبر الثقافي الحرّ. هذا هو نزيفكَ. وهذه هي لذّتكَ! لا “مردود”، طبعاً، ولا ربح.

* * *

هذه هي شهادتُكَ، أيها “الملحق”. وهذا هو معناكَ. وإذا من سببٍ لهذه المقاومة الثقافية، فمن أجل الحؤول دون استتباب ثقافة الموت. إكراماً للذين استُشهِدوا أو غابوا. وإكراماً للحرية!

* * *

منذ أعوامٍ عتيقة، يصدر “الملحق” بثيابٍ منسوجةٍ باللحم الحيّ. يصدر. ويقاوم. ويتراكم. حبرُهُ الحرّ، النقيّ، الناصع، هو وليمتُهُ وهو طعامُهُ، وهو الخبزُ والزيتون، وعلى طريقةِ ذاتِهِ. أما رجالُهُ ونساؤه فهم مواطنو الهواء والينابيع. إلى جانب مواطني الهواء والينابيع الآخرين.

يجب أن يقول أحدٌ كلاماً كهذا، في مثل هذا اليوم بالذات، ليعلم القاصي والداني كيف يساهم هذا المنبر بتواضعه الجمّ في السهر على ثقافة الحرية، وكيف تكون مقاومة الموت. باللحم الحيّ، وليس اقتباساً من أحد.

باللحم الحيّ، “الملحق”، ومنذ أعوامٍ عتيقة، يصدر ويقاوم ويتراكم. إكراماً لمواطني الهواء والينابيع. وإكراماً للحرية!

* * *

… ثمّ يصل المرء إلى الإحساس الغامر بالوحشة. بالعبثية. باللاجدوى. وبالعدمية الماحقة، بسبب تراكم الأعباء والمشقات والأوجاع، ومكابرة اللحم الحيّ الأعزل، الذي يسخر مستخفّاً هازئاً، فلا يتراجع. ولا يخون. لكنه، إذ يواصل الإيمان بضرورة مواصلة العمل على مقاومة الموت، وباللذّة الناجمة عن هذه المقاومة، فضلاً عما تنطوي عليه من كبرياء وأنفة وكرامة، فإنه يخاطب ذاته، باحتمالات العقل الممضّة: ربّما آن الأوان ليدلي أحدٌ ما بكلمته الحاسمة في مصير هذا الشأن. وذلك من أجل أن يكون الاستمرار أو الأفول لائقَين بمواطني الهواء والينابيع. ولائقَين بمواطني الحرية!

… أما الفرس الجريحة – إذا كانت أصيلة – فهي تطلب القتل الكريم، برصاصة في الرأس. وهذه خلاصة ثقافة الحرية والشرف والكبرياء!