ما تشهده الساحة اللبنانية، في هذه المرحلة تحديداً، ناهيك بمحصّلة المئة عام التي مضت على إعلان لبنان الكبير، يدعونا إلى المطالبة أكثر فأكثر بالدولة المدنيّة الكاملة. فلقد أثبتت تجربتنا أننا عاجزون عن إنتاج دولة، بالمعنى الكامل للكلمة، مع «قواعد» ممارستنا النظام القائم.
لقد سقطت التجارب كافةً… ولكلٍ منها سقوطٌ مدوٍ.
سقطت أولاً تجربة المارونية السياسية. ومع إيماننا بأن ثمة إنجازاً مهماً لتلك التجربة من حيث الازدهار والديموقراطية والموقع المميز للبنان في الإقليم، فإنها عجزت عن بناء دولة متكاملة. والسبب هو الواقع الطائفي الذي يصح فيه أنه شرٌ لا بد منه. وهو الذي أعطى كل طيفٍ من أطياف الوطن، ولا يزال يعطي حتى اليوم، حق النقض «Veto» الذي أشرنا إليه قبل يومين، في عُجالة سابقة، والذي أدى ويؤدي إلى «كربجة» البلد.
وسقطت ثانيةً تجربة السنية السياسية التي ازدهرت في أيام الرئيس الشهيد المرحوم رفيق الحريري. وبعد رحيله، أخذت تتداعى حتى وصلنا إلى الحال التي ورثتها فيها تجربة الشيعية السياسية التي هي بدورها عاجزة عن بناء الدولة عجزاً كاملاً، وهي تجربةٌ آيلةٌ إلى السقوط الحتمي.
كانت الأسباب، في معظم الأحيان، ذات بعد خارجي. فدولة المارونية السياسية كان سقوطها الفعلي في مطلع العام 1969 الذي شهِد تدمير الأسطول الجوي المدني اللبناني بالاعتداء الاسرائيلي. واكتمل السقوط باتفاق القاهرة سيىء الذكر الذي قضى على السيادة الوطنية قضاءً مبرماً بتسليم لبنان إلى القيادة الفلسطينية، وقد باهى ياسر عرفات العالم بأنه حكم لبنان ثماني سنوات. وأيضاً سقوط دولة السياسية السنية كان باغتيال الرئيس رفيق الحريري بقرارٍ خارجي بالتأكيد. وفشل دولة الشيعية السياسية القائمة يعود إلى دور الخارج في اجتذاب لبنان إلى المحاور المتصارعة في الإقليم والعالم.
وأما تجارب الرؤساء «الأقوياء»، فلم تكن نتائجها بأفضل من نتائج دولة الطائف منذ الرئيس «القوي» بشارة الخوري الذي أسقطه الانقلاب الأبيض عام 1952، إلى كميل شمعون «القوي» الذي واجهته ثورة 1958 في السنة الأخيرة من عهده، إلى فؤاد شهاب «القوي» الذي حال ائتلاف الكنيسة والقيادة السياسية المسيحية دون تمكينه من ترسيخ دولة المؤسسات، إلى ميشال عون «القوي» الذي لم ينجح عهده في الثلثَين المنصرمَين منه في تحقيق قيام الدولة.
فلماذا الخوف من الدولة المدنيّة التي يمكن الدخول إليها، تدريجاً، من باب اللامركزية الإدارية الموسّعة التي ينص عليها إتفاق الطائف؟!.