IMLebanon

المهزلة المكلفة!

 

عندما تنظر بعض الأطراف السياسيّة اللبنانيّة إلى مشروع بناء الدولة على أنه وصفة جاهزة للحرب الأهليّة فهذا يعني، عمليّاً، أن حجم التناقض والانقسام القائم في البلاد وصل إلى درجات خطيرة وغير مسبوقة، وأن الأمل بإستيلاد الحلول والمعالجات يبدو وكأنه ضرب من الخيال، لا سيّما إذا كان معطوفاً على غياب تام لأي تفاهم إقليمي أو دولي يظلّل الواقع اللبناني ويدفعه في إتجاهات تصب في نهاية المطاف في قيام الدولة المنتظرة.

 

ثمّة مقومات أساسيّة لمفهوم الدولة تُدرّس للطلاب الجامعيين في سنتهم الأولى من إختصاص العلوم السياسيّة تتصل بعناصر تكوينها وفي مقدمها مبدأ السيادة بمعنى أن تتمتع الدولة بسلطة تامة على كامل أراضيها، وأن تحتكر حصراً وظيفة حماية حدودها الدوليّة وضبطها بشكل كامل وأن لا تتشارك مع أي من الأطراف المحليّة في الإمرة المركزيّة لقرار الحرب والسلم، وهو من أهم القرارات الاستراتيجيّة التي يُفترض أن تمتلكها أي دولة، وأن تملك وحدها السلاح فلا تتقاسم الوظيفة الأمنيّة والدفاعيّة مع أي شريك محلي أو خارجي آخر.

 

قبل إسقاط هذه المعطيات النظريّة أو العلميّة على الواقع اللبناني، لا بد من التذكير أيضاً أن هذه المبادئ هي بمثابة سلة متكاملة وفقدان أي منها يعني عمليّاً وأوتوماتيكيّاً فقدان الدولة لأحد أبرز عناصر قوتها وأحد أهم أدوارها، وبالتالي يعتبر هذا «الفقدان»- إذا صح التعبير- هو المدخل الأساسي لبداية تحلل الدولة وتفككها وتلاشيها…

 

مهما حاول البعض من اللبنانيين التذاكي والالتفاف على تلك المبادئ لتبرير وجود منظومة دفاعيّة كاملة خارج كنف الدولة (وندين بهذا التعبير للوزير الراحل نسيب لحود)، فإن ذلك لا يبرّر عمليّاً الواقع القائم الذي بات ينسحب على كل مفاصل الحياة الوطنيّة والسياسيّة. لذلك، يبدو الخروج عن هذه المبادئ بحد ذاته بمثابة ضربة قاصمة للبنان، فكيف إذا ما استُتبع ذلك بإنخراط تلك الأطراف والقوى في الصراعات والنزاعات الإقليميّة وتوريط لبنان من حيث لا يرغب بما لا يقوى على تحمّل طاقته أو نتائجه.

 

إن مصادرة قرار الدولة المركزي وإختطافه، من جهة؛ والانغماس في النزاعات الإقليميّة التي تتعارض مجرياتها بشكل حتمي مع مقتضيات المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة العليا، من جهة ثانية؛ إنما يضع لبنان في عين العاصفة ويعرّضه لما هو أعمق من مجرّد إهتزازات عرضيّة فيدفعه نحو المزيد من الانهيارات المدمرة الكفيلة بأن تقضي على رسالته ودوره، وأن تكرّس قطيعته غير المسبوقة مع الحاضنة العربيّة التي ينتمي إليها وكان جزءاً فاعلاً في تكوينها.

 

إذا كان التذمر الشعبي التاريخي والمشروع في لبنان على مدى العقود المنصرمة يتصل برفض الأنماط المختلفة من التدخلات الخارجيّة المختلفة، بمعزل عن هويات المتدخلين وتبدلهم وفقاً للظروف السياسيّة الدوليّة والاقليميّة، لما تركته هذه التدخلات المتنوعة من ندوب وجراح وإنقسامات تُوّجت في الحرب الأهليّة اللبنانيّة سنة 1975؛ فإنه من الحري ألا تندفع بعض القوى اللبنانيّة بما راكمته من فائض قوّة للانخراط في الحروب الإقليميّة وجرّ لبنان إلى نزاع لا طائل منه مع العرب.

 

لعنة ضعف الدولة ستلاحق اللبنانيين إلى الأبد ما لم يتمكنوا من توحيد رؤيتهم حول الهويّة الوطنيّة وموقع لبنان العربي الذي سبق أن حسمه إتفاق الطائف بعد حرب مدمرة. إن ما يجري اليوم هو دك منهجي لهذه الوثيقة المرجعيّة التي أصبحت معظم بنودها جزءاً لا يتجزأ من الدستور اللبناني الذي تعرّض ويتعرّض بدوره للكثير من الانتهاكات، بما يعكس غياب الثقافة السياسيّة والدستوريّة عن معظم القائمين على إدارة الشؤون الوطنيّة.

 

يا لها من مهزلة مكلفة!