Site icon IMLebanon

الدستور الواضح..والنقاش السياسي “الغامض”

 

المادة 64 من الدستور اللبناني ليست طلسماً. هي تنص بوضوح على ان رئيس الحكومة المكلّف “يُجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم التشكيل”، وهذه صيغة كلية الوضوح في إحكام التدبير: مفاوضات تشكيل الحكومة لا تجري بين الكتل البرلمانية، وانما علاقة كل هذه الكتل بالتشكيل هي علاقتها بالجهد الذي يتولاه رئيس الحكومة المكلّف، وصولاً الى صيغة تحظى بتوقيع رئيسَي الجمهورية والحكومة وتنال من بعدها ثقة المجلس النيابي بناء على تقدّمها بالبيان الوزاري ومن بعد مناقشة فحواه والتركيبة الحكومية المعروضة على النواب.

عندما يكلّف رئيس الحكومة بالتشكيل فهذا يعني أنه ليس هناك “تشكيل موازٍ” غير ذاك الذي يسهر عليه هو، أو هكذا يفترض أن تكون الأمور بحسب صريح الدستور ونصه الذي لا يقبل، في هذه النقطة تحديداً، التحوير. شيء آخر تظهره هذه المادة، وهو ان رئيس الحكومة “مسؤول عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء”، وهذه صيغة دستورية كثيراً ما تغفل او تنحى، في النقاش كما الأداء الغالبَين على حدّ سواء، مع أنها هنا أيضاً، صيغة متينة وواضحة، ويتوقف عليها أمر من اثنين: إما إعادة اكتشافها، في النقاش الداخلي كما في المسار التطبيقي، في سياق إعادة الاحتكام للمعايير والضوابط الدستورية التي ترعى الفصل والتوازن بين السلطات وتوزيع الصلاحيات والمهام والمسؤوليات على رأس الدولة، وإما نستمر في غضّ الطرف عنها، فيؤدي بنا الحال الى المزيد من الاغتراب، في الحياة السياسية والمواكبة الاعلامية المشاركة بها، عن القواعد الدستورية، عن المعايير والتعريفات والتحديدات. واليوم، اذا كان من الصحيح ان هناك أخذاً وردّاً حول الأحجام والأوزان والحصص بين القوى الممثلة برلمانياً، فإن الخطورة في محلّ آخر، في هذا الابتعاد المتصاعد عن كل ما له علاقة بالمعايير والنصوص، إلا حين تُستحضر بشكل انتقائي وجزئي ولوضع العصي في الدواليب.

يتقاطع هذا مع مفارقة مزمنة. فمنذ وقت طويل، وهذا البلد، الذي حافظ رغم كل شيء على الاستمرارية في تاريخه الدستوري منذ قيام الجمهورية اللبنانية في المرحلة الكولونيالية الفرنسية الى اليوم، على اختلاف ما قطعه من مراحل، الانتداب والاستقلال ومشروع التحديث الشهابي ثم الأزمة فالانشطار والحرب الاهلية والاحتلال الاسرائيلي والوصاية السورية فالتحرير جنوباً، وجلاء الوصاية بعدها بخمس سنوات، ففترة الاستقطاب بين حركة الاستقلال الثاني ومنظومة الممانعة وسلسلة الاغتيالات، فالفترة التي دخلناها منذ 2013 مع الفراغ الدستوري والتمديد البرلماني، فإعلان النوايا وتفاهم معراب، فالتسوية الرئاسية والحكومية وصولاً الى الانتخابات الاخيرة. رغم الامتداد الزمني والازمات الهيكلية واللحظات المزلزلة، إلا أن هناك استمرارية دستورية، مبناها ان الدستور الحالي هو تعديلات مُدخلة على الدستور الاول، وليست نصاً جديداً بالكامل من إلِفه إلى يائه. وهذا قليل بين الدول، في مثل هذه المدة الزمنية، وليس هناك اي دولة عربية مثلاً، تحتكم الى الإطار النصي نفسه القائم منذ العشرينيات وتكتفي منه بإدخال التعديلات.

رغم هذه الاستمرارية، فإن المتغيّر ضمنها لا يختزل في طفرات التعديل عليها، وأهمها تعديل 1927 الذي ألغى مجلس الشيوخ، وتعديلات 1943 التي ألغت الارتباط مع دولة الانتداب الفرنسي، والتعديلات التي أُدخلت وفقاً لاتفاق الطائف (وهذه الاخيرة لم تقتضِ كلها بهذا الاتفاق، بل جاوزته، سواء في عدم منح صلاحية تفسيرية للمجلس الدستوري، أو في رفع عدد النواب أكثر مما لحظه اتفاق الطائف). هناك منحى آخر: وهو منحى الاقتراب او الابتعاد عن النصوص. يمكن ان يحدث تهميشها من حيث روحيتها، ويمكن ان يحدث تهميشها روحاً ومبنى.

جزء اساسي من هذا التعطيل لمرجعية النصوص يرجع الى ابتداع “ما فوق دستور” ليس فقط غير مكتوب، بل مبهم او ملتبس، نسميه “التوافقية” في العادة. هذه التوافقية هي بحد ذاتها، وبالشكل الذي تحضر فيه، وبتهميش المرجعية الدستورية النصية، ممارسة لكن ايضاً على مستوى الخطاب نفسه، هي توافقية تحسب، اذا أحسنّا النية تجاهها تماماً، ان المطلوب في هذا البلد درء الخلافات والاختلافات، الحيلولة دون نشوبها، واذا حدث وحصلت فالعمل على درئها من خلال التعويل على “ثقافة درء الاختلاف” ليس إلاّ. اي انها تقوم على تهميش “لعبة المؤسسات”. لعبة المؤسسات تقوم على تراكم التمرن والتمرس لادارة الخلافات ضمن المؤسسات، وليس توهّم درء الخلافات والاختلافات، او جعل المؤسسات خالية منها.

والى اليوم، هذا ما يحصل قبل الانتخابات وبعدها. البحث عن “درء الخلافات” كي تجري الانتخابات، وعن “إعادة درئها” كي تسهل الطريق امام التكليف والتأليف ثم البيان والثقة، فالإقلاع. وبطبيعة الحال، في ظل اوضاع متصلبة وضاغطة، لا يمكن لأحد ان لا يتمنى درء خلاف اياً كان نوعه، إنما لا يمكن في نفس الوقت إغفال ان ثمة أثماناً كلما سعينا الى تهميش صريح الدستور وروحيته. الدستور، اي دستور، هو في الاصل، نسق نصي قيمي معياري تدبيري لادارة الخلافات والتحكم بها وحلها، وليس فقط اجتنابها، الامر الذي يعني ايضاً، اجتناب معالجتها.