هناك ما يُغفَل عنه في لبنان: سلطة رجال الدين هي مطلقة ولا تخضع لحساب. ولرجال الدين —من كل الطوائف، مع أن هناك تراتبيّة يعلو فيها رجال الدين الموارنة على غيرهم— نِعَمٌ لا تحظى بها أي فئة من فئات الشعب. هم يستحصلون على فوائد ماديّة ومرتبّات واعفاءات ضريبيّة من الدولة، كما أن لهم صلاحية غير خاضعة للمراقبة لتلقّي التمويل الداخلي والخارجي لحساب السلطة الدينيّة.
ونقد رجال الدين ممنوعٌ على المواطن العادي. يمكن للمواطن في لبنان أن ينتقد —ضمن حدود— رئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النوّاب لكن نقد رجال الدين ممنوع منعاً باتاً لأنه يمسّ بالأمن الاجتماعي ويفسد الوفاق بين المواطنين كما أنه يدخل في نطاق المسّ بالمقدسات وإثارة الفتنة التي تُطلّ برأسها في زيارات دوريّة في لبنان.
ورجل الدين يستطيع أن يفعل ما لا يفعله العامّة، إلى أي وظيفة أو موقع انتموا. هم يتدخّلون في الحياة السياسيّة بتفاصيلها ويرمون بثقلهم (الطائفي) في الانتخابات النيابيّة، كما أنهم يسنّون لأنفسهم سياسات خارجيّة خارج نطاق سياسة الدولة، وأحياناً في تضاد مع سياسة الدولة. ليس صدفة أن لرجال الدين هؤلاء الوزن السياسي في دولة لم ترد فرض النظام الطائفي إلا «بصورة مؤقّتة» (حسب المادة ٩٥ في الدستور القديم). التصميم الفرنسي للدولة جعل من رجال الدين الممثّلين الأرفع لطوائفهم، على نسق تدبير نظام الملل العثماني. لكن الاستعمار الفرنسي أراد توأمة وطن طائفي لبناني مع وطن طائفي يهودي على أرض فلسطين، وكان هذا مطلب من مطالب كبار رجال الدين الموارنة. وكانت تقارير الديبلوماسيّة البريطانيّة تشير إلى انقسام لبناني على أساس طائفي حول قضيّة فلسطين، لكن ذلك لم يكن عفواً وإنما كان نتيجة لاعتناق الصهيونيّة من قبل البطريرك الماروني ولبعض المطارنة. وبلغت الصفاقة في التحالف بين بعض رجال الدين وبين الصهاينة حدّاً دفع مطران الروم الكاثوليك في فلسطين آنذاك، غريغوريوس حجّار، لتوجيه رسالة إلى اللبنانيّين المتحالفين مع الصهاينة يقول لهم فيها: «فأنتم في لبنان مخدوعون بأمر الصهيونيّة لا ترون فيها غير المال الذي جاءت به»1.
لكن دور البطريرك عريضة ودور المطران أغناطيوس مبارك باتا معروفيْن في الكتابات التاريخيّة عن موقف لبنان من القضيّة الفلسطينيّة2. والأوراق الخاصّة، غير المنشورة، لمحمد جميل بيهم، تدين عدداً من كبار رجال الكنيسة المارونيّة في تحالفهم مع الصهيونيّة. ورجل الدين المسلم، أحمد طبّارة أيّد الاستيطان اليهودي في فلسطين (مع أنه تراجع عن موقفه فيما بعد)3، كما أيّده «شهيد لبنان» عبد الكريم الخليل، الذي يُحتفل بذكراه كلّ عام. ولم تجر محاسبة لأي من هؤلاء، على العكس، بعد أن افتضح أمر النشاط الصهيوني لأغناطيوس مبارك من أجل الدفاع عن «الحق» الصهيوني أمام المحافل الدوليّة، قامت الدولة اللبنانيّة بتهريبه خارج لبنان، ثم هرّبته فيما بعد إلى داخل لبنان بعد أن تناست أفعاله المشينة. ولم تجد البطريركيّة المارونيّة حاجة إلى اليوم للإفراج عن نص الاتفاقيّة السريّة بين الوكالة اليهوديّة والبطريركيّة ويرد فيها اعتراف يهودي صهيوني بـ«الوجه المسيحي» للبنان مقابل اعتراف بطريركي ماروني بحق اليهود في «الاستقلال» على أرض فلسطين 4. لم يكتفِ لبنان الرسمي بالتغطية على الدور الصهيوني للبطريرك عريضة والمطران مبارك، بل هو أعاد تكريم مبارك في احتفال رسمي في عام ٢٠٠٨ (حضره ممثّلون عن الرؤساء الثلاثة) ووصف فيه مطران بيروت الحالي، بولس مطر، مبارك بأنه «علم من كبار أعلام لبنان» 5. بدلاً من المحاسبة حظي مبارك بالمكافأة، وأشاد مطر بدور مبارك التاريخي «الوطني». وهناك بوادر لا لبسَ فيها أن البطريرك الماروني الحالي يريد التبشير بالتطبيع مع العدوّ الإسرائيلي وفي الترويج للسلام معه (وهو جاهر بذلك في مقابلة أخيرة على «إل. بي. سي»).
والسلطات الدينيّة اللبنانيّة تتمتّع باستقلاليّة كبيرة. هي فوق القانون بحجّة حماية السلم الأهلي ومنع الفتنة الطائفيّة، لكنها حرّة في إثارة وتأجيج الفتنة الطائفيّة كما تريد من دون محاسب أو رقيب. حتى رجل الدين الذي يُتهم بالتعامل أو التخابر مع العدوّ الإسرائيلي، يحظى بمعاملة خاصّة تنتهي بإخراج لا يتضمّن عقوبة. من عاقب انخراط رجال الدين الموارنة في الحرب الأهليّة وفي التحالف مع العدوّ الإسرائيلي، ومَن حاسب رجال دين مسلمين انخرطوا في تسليح وعوْن «القاعدة» في سوريا خلال سنوات الحرب الأخيرة؟ ويستطيع رجال الدين مخالفة قوانين تكون عقوبتها قاسية وصارمة على المدنيّين. قضيّة الأب منصور لبكي تدلّ مثلاً على تمتّع رجال الدين بقوانين وإجراءات لا يحظى بها مرتكبو الجرائم نفسها من العامّة. بطرس لبكي لم يتعرّض لعقوبة (غير قانونيّة) إلا بعد أن اتهم باغتصاب أو تحرّش بأطفال (أيتام، عادة) في فرنسا. والتحقيق الفرنسي هو الذي دفع الفاتيكان لإجراء تحقيق من قبلها، وجدت فيه أن الاتهامات ضدّه صحيحة. والبطريركية المارونيّة لم تأخذ أي إجراء ضد لبكي إلا بعد أن أصدر الفاتيكان نتيجة تحقيقاته وضغط باتجاه معاقبته. لكن ماذا كانت عقوبة البطريركيّة على جريمة اغتصاب الأطفال من قبل مطران في الكنيسة؟ اكتفت بتركه يستجمّ في برمّانا فيما تُشنّ حملة صحافيّة (تقودها جريدة «النهار»، لسبب ما) من أجل تبرئته من جريمة أدين فيها مرتيْن (على الأقل). لكن هل عقوبة اغتصاب الأطفال والتحرّش بهم في لبنان تنحصر عادة في استجمام في منتجع جبلي جميل؟
ومثلما أن البطريرك عريضة والحويّك والمطران مبارك تفاوضوا ونطقوا ووقّعوا اتفاقيّات تخصّ السياسة الخارجيّة الرسميّة للبنان، فإن الكاردينال صفير -عندما كان بطريركاً- كان يفاوض رؤساء الدول من دون علم أو مشورة الدولة اللبنانيّة. وكانت مواقفه غالباً في تضاد مع ممثّلي الشعب اللبناني المُنتخبين. والبطريرك الراعي في زيارته إلى أميركا أو إلى السعوديّة كان يتخذ مواقف في السياسة الخارجيّة تتناقض مع مواقف الدولة. الراعي عارض رئيس الجمهوريّة الذي اعتبر ان استقالة سعد الحريري كانت بالإكراه وأنه محتجز جراء عمل عدائي سعودي ضد لبنان، وأفتى الراعي أن استقالة الحريري كانت مُحقّة. وصفير، عندما كان بطريركاً، خالف القانون الانتخابي في عام ٢٠٠٩ وأصدر بياناً يتنافى مع حظر البيانات السياسيّة في آخر الساعات التي سبقت الانتخابات. طبعاً، لم يتخذ وزير الداخليّة الطموح قراراً ضدّه ولم يدلِ بتصريح حول مخالفة البطريرك الماروني.
وهذا الأسبوع، القى المطران الياس عودة (الانعزالي الهوى) عظة «دينيّة» تناول فيها مواضيع شتّى وختمها بذمّ شاعر لبناني مسجون بسبب تعليق على «فيسبوك». وقضيّة الشاعر مصطفى سبيتي لم تحظَ بأي تغطية ولم يحظَ الرجل بأي تعاطف من زملاء له في الشعر والكتابة. والذي يخرج عن طائفته لأي سبب في لبنان، يصبح وحيداً معزولاً، لا معينَ له. ولا معين لكَ في لبنان إلا الطائفة، وهي تأتي قبل العائلة أو العشيرة. الدولة لا تعترف إلّا بحماية الطائفة وتتعامل مع الفرد فقط كونه عضواً في طائفة. لكن الشاعر مصطفى سبيتي هو يساري، وهو مؤيّد لمقاومة العدوّ. أي أنه خرج عن الطائفة وخرج أيضاً عن خيارات النخبة الثقافيّة التي تعادي المقاومة – على أنواعها. لو أن مصطفى سبيتي كتب «ملحمة شعريّة» عن رفيق الحريري، لكان كل الشعراء والكتّاب في لبنان قد تقاطروا إلى واحدة من الساحات لرفع الشموع والكستناء استنكاراً واحتجاجاً. ومصطفى سبيتي يرفع صورة لينين، وهو يساري في قناعاته ممّا يضعه خارج اصطفافات الطوائف. لو كان سبيتي واحداً من الكتّاب والشعراء «اليساريّين» —بتعريف كريم مرّوة— الذين يوالون النظام السعودي والذين يعلنون توبتهم من اليسار قبل الأكل وبعده، لكانت كل منظمّات حقوق الإنسان الغربيّة قد تبنّت قضيّته ولكانَ المراسلون والمراسلات الغربيّات في لبنان قد تزاحموا لإجراء مقابلات معه ومع أفراد عائلته.
ماذا فعل مصطفى سبيتي؟ كتب تعليقاً شعريّاً فايسبوكيّاً اعتُبر مهيناً لـ«السيّدة مريم». واعتذر سبيتي عن فعلته بعد لحظات من كتابة تعليقه، وكان صريحاً في القول إنه كُتب تحت تأثير الخمرة، لكن كل ذلك لم يشفع فيه. المركز الكاثوليكي للإعلام —وهذا المركز هو من مخلّفات القرون الوسطى— تحرّك على الفور وطالب باعتقاله وتجاوبت السلطة معه على الفور. المركز الكاثوليكي للإعلام هو المركز نفسه الذي أفتى قبل بضع سنوات، وبحضور المطران الراعي يومها، أن كل من ينتقد البطريرك الماروني سيتعرّض إلى «الحرم الكبير». وما علاقة الكثلكة بالإعلام، وما علاقة المركز بسلطة الدولة؟ ولماذا تستجيب الدولة لمطالب مركز إعلامي يحمل صفة دينيّة؟ لو كان هناك مركز باسم «المركز الماركسي للإعلام» هل كانت السلطة ستتجاوب مع مطالبه بالعقوبات والتحريم؟ إن رجال الدين على أنواعهم يهينون المعتقدات الماركسيّة والدينيّة المُغايِرة باستمرار لكن أحداً لا يطبّق عقوبة عليهم. والماركسيّون والزنادقة يتعرّضون للشتم والذم والتقريع على مدار الساعة، وهم يتقبّلون ذلك بصدر رحب ولا يطالبون بتطبيق «الحرم الكبير» على أحد. لكن لماذا يُطالب الفريق اللاديني فقط برحابة الصدر، فيما تتنافس السلطات الدينيّة غير المنتخبة في التزمّت وضيق الصدر والقمع والحظر والرقابة. وليس هناك ما يضبط عملها، بل أن السلطات الدينيّة ترتبط رسميّاً بالرقابة على الأفلام والمطبوعات (أذكر أن أستاذ اللغة العربيّة الراحل، توفيق جرّاح، أخبرنا مرّة أنه حضر جلسة مراقبة فيلم أجنبي، بالنيابة عن صديق له تعذّر حضوره، وكانت لجنة من رجال الدين تشاهد النسخة الأولى من الفيلم المستورد لتسجّل اعتراضها. قال إن رجال الدين كان يعمدون إلى إعادة المشاهد الجنسيّة أكثر من مرّة وذلك للتمعّن فيها أكثر).
ويبدأ المطران عودة عظته بموضوع آخر، إذ أنه يتحدّث عن الإجحاف ضد طائفة الروم في قوى الأمن الداخلي. والذي بدأ عظته بهذا الموضوع أنهاها بالحديث عن ضرورة حماية المقدّسات ومعاقبة المخلّين بشروط التعبير الدينيّة، حتى ولو كانوا شعراء. ثم ناشد وزراء الروم برفع الصوت. لكن بأي صفة يخاطب رجل الدين، مسلماً كان أم مسيحيّاً، وزراء ونوّاباً يُفترض دستوريّاً أن يكونوا ممثّلين (وممثّلات) عن الأمة جمعاء؟ وما عقوبة ذاك الذي لا يستجيب لنداءات ومطالب ومناشدات رجل الدين في طائفته؟ لكن اللعبة مفهومة وإن كانت خارج الدستور: كل نائب وكل وزير وكل طامع بالعمل السياسي، حتى وإن كان مُتستّراً بلباس المجتمع المدني، يتقرّب من رئيس سلطته الدينيّة لعلمه أن ذلك ضروري من أجل الصعود في السلّم التمثيلي. وهذا ينطبق بصورة خاصّة على الموارنة أكثر من غيرهم لأن العرف اقتضى أن يُستجاب لخيارات البطريرك الذي يتقاطر إليه سياسيّون من كل الطوائف. في زمن الاستعمار الفرنسي، صعد أمين الريحاني ذات يوم بعد مقاطعة طويلة لبكركي وواجه البطريرك أمام الصحافة حول موقفه في رفض الاستعمار الفرنسي وأنه يختلف مع البطريرك في ولائه له. وأجابه البطريرك آنذاك بتأكيده على ولائه لفرنسا وقال كلاماً يُذكِّر بكلام الساسة والإعلاميّين والإعلاميّات اليوم حول «خير» النظام السعودي على لبنان. زمن مخالفة رئيس الطائفة من فرد محسوب على طائفة ولّى إلى غير رجعة.
والمطران الذي هاج وماج بسبب تعليق «فيسبوكي» لم ينسَ أن «يُلطِّش» الطوائف الأخرى في لبنان إذ قال: «الأرثوذكس فهم دائماً المظلومون. لماذا؟ لأنهم حضاريّون ولا يحملون السلاح ولا يقطعون الطرق ولا يتوسّلون الوسائل غير المشروعة». هل قصدُ المطران مُوجّه إلى طائفة من الزعران مع أن إشارته غير مبهمة؟ لكن بعد هذه المقدّمة من المطالب الطائفيّة تحوّل المطران إلى موضوع مصطفى سبيتي. بدأه بالحديث عن موبقات الخمر وأنه «يُفقد الإنسان صوابّه». يظن المرء أن هذه المقدّمة تصلح للمطالبة بالعفو عن الشاعر المسكين، لكنه على العكس من ذلك، زاد من ثورته على الشاعر. وذكّر أن الشاعر (اليساري العلماني) كان سيثور لو أن أحداً تعرّض لـ«السيدة زينب» أو «السيّدة فاطمة». هنا يكشف المطران عودة الذي يعيش في بلد أكثر سكّانه من المسلمين مدى جهله بالدين الإسلامي. هل المطران يجهل أن «السيّدة مريم» هي مُكرّمة عند المسلمين وأنها مذكورة في القرآن وأن الله اصطفاها قبل ولادتها على نساء العالمين؟ يبدو أنه يجهل كل ذلك، ومن الواضح أنه لم يقرأ القرآن من قبل (خلافاً لمعظم رجال الدين الأرثوذكس المتشبّعين بالثقافة الاسلاميّة إلى جانب ثقافتهم الدينيّة المسيحيّة). واتهم عودة سبيتي أنه كان سيبادر مع «زمرة من أمثاله إلى حرق الدواليب وقطع الطريق وتحطيم الصلبان ورشق الكنائس بالحجارة وربما إلى القتل والتدمير». ما يقوله عودة أن المسلم سيبقى المسلم كما صورته النمطيّة في المخيال الاستشراقي الإسلاموفوبي حتى لو كان خارج الحصر الطائفي أو الديني نتيجة عقيدته اليساريّة الشيوعيّة. لا، وذكّر عودة مصطفى سبيتي بما حصل لمطرانيّته في ٥ شباط ٢٠٠٦ متناسياً أن الذين فعلوا ذلك كانوا منضوين في التحالف السياسي نفسه الذي ينتمي هو إليه. ما علاقة سبيتي بما حصل بمطرانيّته؟ هل لأنه فقط مسلم الولادة ويصبح عندها مسؤولاً عن كل أفعال كل مسلم حول العالم، كما أن رهاب الإسلام يجعل من كل مُسلم الولادة والإيمان مذنباً بسبب أفعال مسلم واحد أو مسلميْن أو أكثر؟
وينتقد عودة «إخوتنا المسلمين» الذين لم يسمع صوتهم عن الموضوع. لم يلحظ المطران عودة أن رجال دين مسلمين استنكروا بأشد العبارات ما قاله سبيتي وبعضهم هاجمه على مواقع التواصل وطالب بمعاقبته. وقد اختلفتُ مع رجل دين شيعي على «فيسبوك» لأنه تعرّض لسبيتي بشخصه وسلوكه عندما أدانه بسبب تعليقه. قد يكون عودة غير عالِم بردّات فعل رجال الدين المسلمين والعامّة من المسلمين ضد كلام سبيتي لأن صورته عن الإسلام تجهل قيمة ومكانة «السيّدة مريم» في الإسلام. لا، وعلى طريقة ١٤ آذار عندما يطالبون بالمعاقبة والرقابة والمنع، لم ينسَ عودة أن يذكِّر أنه مع حريّة الرأي وحريّة الفكر والتعبير. لكنه يريد الحريّة على مقاسه.
والذي طالب غيره باحترام الغير وصف مصطفى سبيتي بـ«السكّير»، وقال «لا يضير قديستنا… كلام إنسان فاجر». وأكّد عودة الذي لا يعرف سبيتي (وأنا بالمناسبة لا أعرفه) أن الأخير حاقد على «والدة الإله ومن يكرمونها». ولهذا، لا يريد عودة عقوبة «صوَريّة» ويطالب المسؤولين بـ«أن يقوموا بما يلزم» ليكون سبيتي «عبرة لغيره ولإبعاد شبح التعصّب والحقد والكراهية». لكن الذي يقرأ عظة عودة (والتي أزال موقع «النهار» مقاطعَ منها كان قد نشرها، خصوصاً تلك التي أهانَ فيها بصورة مبتذلة شخصيّة مصطفى سبيتي لكن موقع «القوّات» لا يزال يحتفظ بالنص الأصلي لها) يحق له التساؤل: مَن الذي تسبّب في إثارة النعرات الطائفيّة التي يُحذّر الجميع منها أكثر؟ المطران عودة أم مصطفى سبيتي؟ في عظة المطران ما يثير الحساسيّات والاستفزازات الطائفيّة أكثر بكثير من تعليق فايسبوكي واحد لشاعر ثمل.
لقد ذهب عودة بعيداً في إهانة مواطن. ويحقّ للشعراء من الخيال ومن الكلام المُرمز والمجازي ما لا يحق لغيرهم ولو كانوا رجال دين. وتعليق سبيتي كان واضحاً أن مقصده شعري محض وليس إهانة طائفيّة أو دين، ولا يؤخذ كلام الشاعر —تحت تأثير الخمرة أم من دونها- حرفيّاً مثل كلام رجال الدين أو العامّة. ولو طبّقنا صرامة نقد ومحاكمة كلام الشعراء، لما بقي شاعر أو شاعرة طليقة. هل يجب سجن أدونيس، وهو أكثر الشعراء العرب شهرة في العالم أجمع – بعد محمود درويش – على كلامه في «أغاني مهيار الدمشقي» عندما قال: «لا الله اختار ولا الشيطان. كلاهما جدار. كلاهما يغلق لي عينيّ». هل أثار أدونيس بكلامه النعرات الطائفيّة هو أيضاً؟
وإذا كان رجال الدين في بلادنا يريدون محاكمة ومعاقبة مَن يخدش أسماعهم أو مِن يجرح مشاعرهم، فيجب من باب أولى أن يمثّلوا مدرسة في احترام عقائد الغير، وهم في أكثرهم بعيدون عن ذلك. هم يهينون بعضهم بعضاً، وهم يهينون اليساريّين والماركسيّين والماديّين وذوي العقائد المختلفة. لا يمكن أن تكون الكنيسة في لبنان واضعة لشروط وضوابط التعبير.
مصطفى سبيتي في زنزانة في النبطيّة بسبب شكوى من سلطة دينيّة. هناك مَن رعى عصابات الفتنة الطائفيّة في طرابلس وهو حرّ طليق وهو الذي ورّط لبنان في الحرب السوريّة قبل أن يصل مقاتل واحد من حزب الله إليها. وحالة الصمت بين المثقّفين خير مُعبّر عن سطحية استعراضات حريّة التعبير في بلد مثل لبنان. نذكر كيف أن السفير السعودي دعا النخبة الثقافيّة في لبنان إلى تظاهرة من أجل حريّة التعبير: يومها تنافسوا في سرعة الوصول وفي التقرّب من السفير لأخذ الصورة معه. لكن لو كان سبيتي يكتب بالفرنسيّة، وفي اسباغ المديح على الاستعمار الغربي، لما كان في السجن. ولو كان سبيتي من دعاة الاستعمار، لكان الرئيس الفرنسي قد تدخّل شخصيّاً لاطلاق سراحه من الأسر. سبيتي دخل السجن بأمر السلطات الدينيّة ولن يخرج منه إلا بموافقتها.