فاجأت استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة، اللبنانيين بمختلف فئاتهم وتوجّهاتهم، كما فاجأت أقرب معاونيه ما دفع بالبعض إلى الاعتقاد بأنّ الاستقالة فاجأت سعد الحريري نفسَه مثلما فاجأت غيره.
إستقالة الحكومة في حدّ ذاتها لم تكن فكرةً جديدة. فخلال زيارة رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الى أوستراليا لوَّح باستقالة وزرائه من الحكومة. موقفه هذا جاء بعد أيام معدودة على زيارته إلى السعودية حيث التقى وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان.
يومها تحدثت مصادر “القوات”، ومن ثمّ جعجع نفسه، عن مرحلة جديدة ترتكز على محاصرة “حزب الله” أكثر، ورفع مستوى المواجهة مع دمشق، على أن تُشكّل استقالة الحكومة إحدى مراحل التصعيد.
يومها تركّزت الأنظار على ردّة فعل طرفين أساسيّين معنيّين مباشرة في هذه الاستقالة، الأوّل للحريري نفسه، والثاني رئيس الجمهورية ميشال عون إضافة الى “حزب الله” بطبيعة الحال.
الحريري بدا مطمئنّاً بعد زيارته الاولى الى السعودية. وقبل أن يذهب أبلغ إلى رئيس الجمهورية أنه سيكاشف المسؤولين السعوديّين بكامل الصورة السياسية والمخاطر التي يمكن أن تنجم من خطوات غير محسوبة، وأنّه واثق من قدرته على إقناع السعوديّين بوجهة نظره.
كما أنّه أبلغ إلى “حزب الله” من خلال قناة نادر الحريري وحسين خليل الأمرَ نفسَه، وطمأنهم بأنه متمسّك بعدم تطيير الحكومة.
وعاد الحريري مطمئنّاً من زيارته المثيرة الى الرياض، وأوحَت صورة “السيلفي” مع الوزير السعودي ثامر السبهان وتعليق الحريري تحتها، بأنّ وجهة نظره انتصرت، وكذلك بدا واثقاً رئيس الجمهورية من أنّ التهويل بإسقاط الحكومة سيبقى في الإطار الإعلامي من دون أيّ خطوات تنفيذية.
حتى جعجع نفسه آثر التراجع خطوات، بعدما اقتنع بأنّ الحريري يريد شراء الوقت والهروب من التوجّه السعودي الهجومي الجديد، خصوصاً أنّ الحريري وقّع من دون أيّ تردّد أو حتى تململ على أوراق اعتماد السفير اللبناني في دمشق. لم يرصد جعجع أيّ مؤشّر من الحريري أنه في وارد التصعيد، فآثر وقف هجومه وخفض مستوى التوتر مع رئيس الجمهورية و”التيار الوطني الحر”.
لكنّ المفاجأة المدوية جاءت في اليوم التالي مع سفر الحريري الى السعودية للمرة الثانية خلال أيام وإعلان بيان الاستقالة.
وقبل ساعات معدودة، أي عند التاسعة صباحاً، اتصل الحريري بمدير مكتبه نادر الحريري، وأبلغه بما سيحصل وكانت المفاجأة كبيرة. لكن في الليلة التي سبقت كانت الديبلوماسية السعودية في عواصم القرار، وتحديداً في واشنطن، قد بدأت تتحدّث عن خطوة صاعقة على المستوى الحكومي ستحصل في لبنان.
وتعمّدت السعودية إظهارَ “أبوّتها” ومسؤوليّتها الكاملة لاستقالة الحريري، إن من حيث المكان الذي أعلن منه استقالته (السعودية)، أو من حيث الوسيلة الإعلامية التي أعلنت الخبر أولاً، أي “العربية” بدلاً من أن تكون شاشة “المستقبل” المملوكة من الحريري، إضافة إلى أنّ مفردات رسالة الاستقالة لا تعكس أسلوبَ الحريري. كانت السعودية تريد أن تتبنّى بوضوح هذه الخطوة، والتي ستكون على الأرجح محطّة من ضمن خطة هجومية كاملة في المرحلة المقبلة.
قبل ذلك كانت السعودية قد أرسلت إشارات حول نيّتها انتهاجَ سياسة أكثر تشدّداً تجاه “حزب الله” والعلاقة مع سوريا انطلاقاً من لبنان. فمناخ واشنطن بات ملائِماً مع وضع خطة ضغط في اتّجاه إيران و”حزب الله” على السواء في إطار المرحلة الأخيرة من الحرب في سوريا والشروع في ترتيب خريطة النفوذ والخريطة الجيوسياسيّة التي ستُكرّس الواقع في المنطقة لعشرات السنين.
ولأنّ المرحلة هي مرحلة ترتيب غرفة المفاوضات، فلا بدّ من حملة ضغوط لإعادة “دوزنة الأحجام”، وهو ما يعني فتح الباب امام ذلك. وقد تكون السعودية وجدت بأنّ الوقت حان والظرف يسمح بالشروع في ضغطٍ موازٍ، وهو ما يؤدّي لاحقاً الى جني بعض المكاسب، فكان السلوك السعودي الجديد.
وبدأت الإشارات السعودية الجدّية مع زيارتَي جعجع، والنائب سامي الجميّل، وتبعهما النائب السابق فارس سعيد. المضمون الفعلي لهذه الزيارات ظهر في مواقف جعجع خلال زيارته لأوستراليا والتي كان أبرزها الدعوة إلى الاستقالة من الحكومة.
وجرى توجيه دعوة إلى النائب وليد جنبلاط لزيارة السعودية أيضاً، لكنّ الزعيم الدرزي وجد طريقة للتملّص من الزيارة، فهو تحدّث عن الظرف الضاغط في الداخل اللبناني وفي سوريا، وأنّه مستعدّ للزيارة ولكن بعد ذهاب الحريري.
وأبلغَ جنبلاط موقفَه الى “حزب الله”، في وقت كان المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم يجري اتصالاته خصوصاً مع النظام السوري لتأمين شروط إطلاق سراح الدروز الذين خُطفوا في سوريا.
نجَحت جهود اللواء ابراهيم وبادلهم النظام بمسجونين، وبعدها باشر ابراهيم بتعبيد الطريق أمام زيارة لجنبلاط الى قصر بعبدا. لكنّ الخطوة الأهمّ كانت في اللقاء الذي عُقد في منزل جنبلاط في كليمنصو وبدعوة منه وجمع الى جانبه الرئيسين نبيه برّي والحريري.
جنبلاط كان يُريد تمتينَ روابط “الثالوث السرّي” بما يضمن حماية تموضعه الجديد البعيد من أيّ مواجهة غير مضمونة النتائج، وبرّي كان يحمل رسالة واضحة منسّقة مع الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله بضرورة تجنّب الانزلاق في أيّ خطة تهدف لتطويق “حزب الله” وشدّ الخناق عليه، والحريري كان يحمي سياسته مستبِقاً الضغوط السعودية عليه خصوصاً أنّه سمع نصائح سعودية سابقة بإعادة تفعيل تواصله مع برّي وجنبلاط في إطار تعزيز هذه المعادلة وتوسيع المسافة بين الحريري ورئيس الجمهورية.
ولكنّ كلام جعجع بعد زيارة السعودية أظهر وجودَ نقطة مركزية تتعلّق بتطيير الحكومة لكي لا تشكّل غطاءً سياسياً رسمياً لـ”حزب الله” تحت وطأة الضغوط المقبلة والعقوبات المتوقّعة. لكنّ الترجيحات كانت تتحدّث عن مرحلةٍ محتقنة بعد رأس السنة حيث ستحصل الاستقالة الحكومية. وكان “حزب الله” يستعدّ لوضع خطة لمنع حصول ذلك ولكن وفق توقيت ما بعد رأس السنة.
ومال الميزان في اتّجاه التفاؤل والتهدئة أكثر، مع عودة الحريري من زيارته الأولى الى السعودية وإعلانه بالفم الملآن أنّ الاستقرار السياسي مؤمّن وهو ما تريده السعودية. يومها استند كلام الحريري الى ما سمعه من السبهان بأنّ السعودية حريصة على الاستقرار السياسي والأمني في لبنان، لكنّ الحريري تناسى كامل الجملة التي تلفّظ بها السبهان بأنّ “حزب الله” يُهدّد أمن المملكة، وأنّ أولوية السعودية هي ضمان استقرارها أيضاً.
لكنّ السؤال يبقى: لماذا عجّلت السعودية في خطوة الاستقالة، وهو ما سيضع لبنان أمام مرحلة تجاذب سياسي كبير وسط أزمة حكومية طويلة وخانقة؟
الإجابة تتراوَح بين شقّين: واحد لبناني وثاني إقليمي.
بالنسبة إلى الأسباب اللبنانية، فإنّ السعودية قد تكون لمَسَت أنّ “حزب الله” يندفع أكثر في خطوات سياسية داخلية لتأمين طبقة حماية لبنانية له، وهو الذي يستند الى تحالف متين مع رأس السلطة في لبنان. فالحريري عاد من زيارته الى السعودية واستمرّ في السياسة الحكومية نفسها مثل توقيع أوراق السفير اللبناني الجديد في دمشق، واستقباله مستشار مرشد الثورة الإيرانية للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي والتي قيل إنها كانت النقطة التي فاض معها الكأس، ورئيس الجمهورية تابع في تبنّي سياسته نفسها.
فبعد اللقاء المثير بين وزيرَي خارجية لبنان وسوريا في نيويورك، أعلن عون في لقائه الإعلامي لمناسبة مرور عام على وصوله الى رئاسة الجمهورية، أنّ الحلّ لسلاح “حزب الله” مرتبط بالحلّ لمشكلة الشرق الأوسط، ما يعني الإقرار رسمياً بوضع سلاح “حزب الله” خارج إطار أيّ نقاش في المرحلة الحالية أو المستقبَلية، وقد تكون السعودية تُدرك “واقعية” موقف رئيس الجمهورية وأنّه موقفٌ حقيقي، لكنّها ترفض الإقرار به أو الإعلان عنه لترك باب المناورات والضغوط مفتوحاً من هذه الزاوية عندما يُراد ذلك، أو تتطلّب اللعبة السياسية فتحَ النار.
لكنّ ثمّة سبباً إقليمياً ليس متداولاً وقد يُبرّر الاستقالة العاجلة التي حصلت قبل أوانها، ذلك أنّ قمّةً ستُعقد بين الرئيسين الأميركي والروسي مخصّصة للملف السوري على هامش منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في فيتنام. وبدا أنّ هذه القمّة والتي ستعالج الخطوط العريضة للتسوية السياسية في سوريا وتوزيع مناطق النفوذ والحصص الإقليمية في الصحن السوري، غابت عنها السعودية.
فهي خارج هذه التفاهمات “وحصّتها” لا تبدو مؤمَّنة، فاستعجلت الضربة السياسية في لبنان لتوجيه رسالة اعتراض، وهي التي تُدرك أنّ واشنطن يهمّها الاستقرار الأمني اللبناني كثيراً، اضافة الى الاستقرار السياسي الذي يشكّل منطقة حماية للاستقرار الأمني، ما سيدفع واشنطن للوقوف على مطالب السعودية في سوريا، رغم الإشارة الى أنّ فريق دونالد ترامب الخاص (وليس المؤسسات) متفاهم مع السعودية على هذه الخطوة.
وكان لافتاً أن يلي استقالة الحريري إطلاق صاروخ باليستي من اليمن في اتّجاه مطار الرياض. طبعاً كان مطلقو الصاروخ يُدركون أنّ إمكانات السعودية تسمح بإسقاط الصاروخ، وأنّ المطلوب توجيه رسالة تهديد واعتراض لا أكثر.
في انتظار ذلك، سترتفع أصوات الضغط والتهويل بحرب قريبة، لكنّ إسرائيل القادرة وحدها على خوض هذه الحرب لا تُريدها أو ليست مستعدّة لها، وهي التي راقبت بكثير من التمعّن أخيراً مناورة سرّية لـ”حزب الله” أجراها في سوريا شملت إطلاق الصواريخ. راقبت إسرائيل المناورة الصاروخية لحظة بلحظة وأخذت الدروس والعِبَر المطلوبة.
لكنّ الثمن الذي سيدفعه لبنان هو غير ذلك، والأزمة الحكومية ستشتدّ وتطول خصوصاً أنه بات مؤكّداً أنّ الحريري لن يعود قريباً الى لبنان رغم أنه في اتصاله المقتضب جداً برئيس الجمهورية قال إنه سيعود بعد أيام قليلة الى لبنان ويشرح لعون ما حصل. وسيؤثّر ذلك سلباً في الواقع الاقتصادي السيّئ أساساً وستتباطأ العجلة الاقتصادية أكثر وستشتدّ الضغوط على العملة الوطنية.
وتكشف معلومات موثوقة أنّ لقاءً عُقد مساء أمس الأول ترأسه أمين عام “حزب الله” وحضره جميع مسؤولي “سرايا المقاومة” على مستوى لبنان، وتخلّله تأكيد على الجهوزية والاستعداد لأيّ طارئ والتعامل معه، وهذه أوّل إشارة داخلية يرسلها “حزب الله” منذ فترة بعيدة.
وفي المقابل، بات إجراءُ الانتخابات النيابية مسألة صعبة جداً. فصحيح أنّ الدستور لا يمنع حصول الانتخابات في ظلّ حكومة تصريف أعمال، لكنّ لوزير الداخلية الحرّية بعدم تحمّل مسؤولية إجرائها في غياب حكومة تتولّى تغطيته، وكذلك هنالك التوقيع على المهل القانونية.
والأهمّ من كل ذلك أنّ الحريري والفريق السياسي الذي ينتمي اليه، سيجد في الأزمة الحكومية مناسبة للتفلّت من انتخاباتٍ ستؤدّي حكماً ووفق هذا القانون الى فوز تحالف “حزب الله” بالغالبية النيابية.