بهدوء |
وضع السعودية هشٌ للغاية؛ في الخلفية العامة، لم تستطع المملكة أن تطوّر بنى اقتصادية عميقة، أو نظاماً اجتماعياً قادراً على إعادة توزيع الثروة، حتى بالأسلوب الرعائي القبلي. وهي تخضع لبنى سياسية متخلّفة بلا مؤسسية أو انتظام وطني داخلي. وعلى المستوى الثقافي، ما تزال الوهّابية تسيطر على البلاد، وتحدد أفق الأفكار والنقاش، وتخلق الأرضية الملائمة لتأييد التنظيمات التكفيرية الإرهابية، وبالذات، أكثرها إغراء، أي «داعش».
أدى كل ذلك، ويؤدي إلى منع تشكّل هوية وطنية للبلاد التي تعاني من انشقاقات عرضية وطولية؛ فالثروات الخيالية تتراكم لدى أقلية عائلية وقبلية وتجارية، بينما تعاني فئات سعودية واسعة من الفقر والبطالة والتهميش، بصورة لا يمكن تصوّرها في بلد نفطي ثري للغاية. وعلى مستوى آخر، تعاني المملكة من تشقق نسيجها الاجتماعي؛ فالنخب الليبرالية معزولة ويائسة، ولم تخطُ المملكة خطوة واحدة على طريق تنفيذ برامج تنموية وسياسية لصالح المقهورين من الشيعة والاسماعيليين والزيديين والقبائل البدوية الأقل مكانة، بينما أيقظت حربها على اليمن، الهوية اليمنية لثلاث محافظات سعودية هي نجران وجيزان وعسير.
منذ 1990، كان على السعودية أن تلتفت إلى المشكلات الكبرى التي تعترض مسار تطورها، بل ووجودها؛ فخسرت، هكذا بسياسات حمقاء، 25 سنة ثمينة للغاية، جرت، خلالها، تحوّلات عالمية وإقليمية، أدت إلى نشوء اقتصادات كبرى وقوى وديناميات جديدة في العالم، ظلت السعودية في منأى عنها. وفي منطقتنا، راكمت إيران انجازات اقتصادية وعلمية وتقنية وسياسية ودفاعية معترفاً بها. ورغم أن تجربة تركيا الاقتصادية، مشوبة بالانكشاف على الخارج، فقد تمكّن الأتراك من تحديث البلاد، اقتصادياً، وتحسين وضعها التنافسي، في حين غرقت السعودية في الجمود الداخلي، والاندفاع نحو الاندماج المالي البالغ الخطورة في المنظومة المالية الرأسمالية. وقد سمح لها ذلك، بالشراكة مع اليمين الأميركي واللوبي الصهيوني، لتنفيذ خطط تدميرية في المنطقة، وتشكيل جبهة مناهضة لإيران. وهي الجبهة التي خسرت معركتها، من دون أن يكون بحوزتها (الخطة باء).
وبالنظر إلى هشاشتها البنيوية، استشعرت السعودية، وتستشعر مخاطر جدية ناجمة عن تعمّق ضعفها في مقابل تنامي القوة الإيرانية التي، بغض النظر عن نواياها، تملأ، موضوعياً، الفراغ. ولا يتعلّق الأمر بـ «أطماع إيرانية»، بقدر ما يتعلق بالمشكلات الداخلية. وهنا، تصدق نصيحة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، المزعجة، للسعوديين والخليجيين، بالاهتمام بحل مشكلاتهم الداخلية، بينما يقترح عليهم الروس، الشروع بإصلاح سياساتهم الخارجية؛ وهو اقتراح أخذ به السعوديون فعلا؛ فمن جهة، يتفاعل مسار المصالحة مع سوريا، ومن المنتظَر أن تتم متابعته في الاجتماع الثلاثي الذي سيعقده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف مع نظيريه الأميركي، جون كيري، والسعودي، عبدالله الجبير، في الدوحة قريباً.
تقترح روسيا على السعودية حلفين، أحدهما مع سوريا وتركيا والأردن في مواجهة الإرهاب، وآخر، دفاعي، يضم دول الخليج وإيران، لطمأنة الهواجس الخليجية.
طوال ربع القرن الماضي، اتبعت السعودية، سياسات تفتقر إلى العقلانية؛ فهي ساهمت في محاصرة العراق، وعزله، والتهيئة لـ، والمساعدة على احتلاله، بدلا من طيّ صفحة حرب الخليج الثانية، والمصالحة مع بغداد، ودعمها، وإعادة استيعابها في النظام العربي. بذلك، دمّرت السعودية، بيديها، إحدى ركائز الأمن القومي. وبعد 2003، رفضت السعودية، التعاطي الإيجابي مع التبدلات السياسية في العراق، وناصبته العداء، وموّلت الإرهاب في أنحائه، وشجعت سياسييه السنة على رفض الاندماج في مشروع وطني. وبالخلاصة، لا نستطيع أن نصف السياسة السعودية نحو العراق، إلا بالحقد والعداء للدولة العراقية، سواء أكانت قومية، سنية، شيعية؛ فالعراق نفسه هو المستهدَف دائماً.
وتعبيراً عن نزوع جنوني بالفعل، كررت السعودية، فعلتها العراقية في سوريا، وعملت كل ما بوسعها، خلال السنوات الخمس الفائتة، على تدمير هذا البلد وقواه، بصورة لا تنمّ عن مشروع سياسي واقعي، بل عن الحقد التدميري الفوضوي. وبالنتيجة، شاء السعوديون أم أبوا، فإنهم أطلقوا النار على أمن المملكة، في الحرب على سوريا.
السعودية تخسر الحرب الباهظة الكلفة في سوريا؛ هذه الحرب التي نزعت عن المملكة، إطار «القداسة» الذي طالما تمتعت به منذ حرب 1973؛ فأضحت عرضة لهجمات سياسية واعلامية غير مسبوقة، حطّت من مكانة المملكة، وطرحت، مجدداً، النقاش حول شرعية نظامها، وعلاقاتها مع العدو الإسرائيلي، وسيادتها على الحرمين الشريفين.
كذلك، فإن سياسات الرشى والتخريب والتفرقة ونشر الوهابية في اليمن، والسعي المستمر لالحاقه ومنعه من التقدم، فجّر، في النهاية، الجمهورية اليمنية، في وجه الاستعمار السعودي، ولم يعد أمام الرياض للرد على خسارة «حديقتها الخلفية» سوى شن الحرب على الشعب اليمني، وتدمير البلد الفقير، من دون جدوى سياسية.
ارتكبت السعودية، وترتكب، جرائم حرب في اليمن، ما يبدو أنه البديل الحاقد عن الفشل الذي يتعاظم يوماً وراء آخر، ويستنزف المملكة، مالياً وعسكرياً وأخلاقياً، في حرب طويلة لا يستطيع السعوديون، تحمّل نتائجها؛ فليست، هناك، في الأصل، قضية تسوّغ الحرب، وليس لدى السعودية تكوين عسكري قادر على مواصلتها؛ فالجيوش هي إبنة المجتمعات والهويات الوطنية، وليست إبنة المال والسلاح.
السياسة السعودية هي العامل الرئيسي الذي يمنع لبنان من الاستقرار، ويحول دون تفاهم قواه على صيغة لإحياء الحد الأدنى من مشروع الدولة؛ أقله في مجال الإدارة والخدمات العامة.
وفي الأردن ــــ الحليف التابع الذي لا يقول للرياض لا أبدا ــــ مارست السعودية، وتمارس الإذلال بحق الدولة الأردنية المثقلة بالمديونية واختلالات المالية العامة واللاجئين الخ. وفي تواطؤ مع الفساد الداخلي، اتبعت الرياض نهج تقديم الرشى، بدلاً من دعم خزينة الدولة.
بسبب ثرواتها النفطية الهائلة، ومقدساتها، وثقافتها الوهّابية المتجذرة في حواضن اجتماعية واسعة؛ فإن السعودية هي البلد المرشّح لاستقرار القوى التكفيرية الإرهابية. ومع ذلك، ليس للمملكة من بديل سوى التحالف مع التكفيريين الإرهابيين، سواء أفي العراق أم سوريا أم اليمن. وهي ستدفع ثمن التعاون مع التنظيمات الإرهابية، غالياً جداً.
داخليا، ظهر تلافي تطوير المؤسسات السياسية، كدينامو للعمليات الانقلابية في القصر والعائلة؛ انتقال المُلْك إلى سلمان بن عبدالعزيز، تم كانقلاب على تسوية، وفتح الباب لانقلاب ثانٍ أطاح بجناح وفريق الملك الراحل، عبدالله بن عبدالعزيز، بينما يلوح في الأفق انقلاب ثالث، قد يأتي برجل المرحلة القوي، محمد بن سلمان، ملكاً، على حساب محمد بن نايف.
هذه ملامح أولية للمشهد السعودي الآيل للإنهيار. وهو انهيار طالما كان أمنية للمقهورين والتقدميين في العالم العربي، لكن، من وجهة نظر استراتيجية، ترى روسيا وإيران أن سقوط السعودية، سيكون له نتائج جيوسياسية وخيمة من اندلاع الحروب الأهلية، الطائفية والقبلية والجهوية في المملكة، وتشققها، وولادة دولة تكفيرية ارهابية صريحة على أرضها.
لا تصافح المملكة، اليد الإيرانية الممدودة إليها؛ ولكن موسكو تواصل محاولات مكثفة لجرّ الرياض إلى تسويات إقليمية. وربما تنجح في ذلك، جراء أربعة عوامل هي (1) مصاعب الحرب على اليمن، (2) التهديد الإرهابي المتصاعد، (3) الضغوط الأميركية التي لا تأخذ الهواجس السعودية إزاء تنامي القوة الإيرانية، مأخذ التعاطف، (4) طموحات محمد بن سلمان لتولي العرش، ما يدفعه نحو تبني سياسات تكفل له التأييد الدولي والإقليمي.