لا شك أن لبنان يمر في أزمة سياسية خانقة، من فراغ رئاسة الجمهورية، إلى تمديد المجلس النيابي لنفسه، إلى لا شرعية مجلس الوزراء، إلى لا شرعية الجباية والإنفاق. اللاشرعية التي تلف النظام تستدعي في نظر البعض العودة من جديد إلى تأسيس الدولة، وذلك يتطلب مؤتمراً تأسيسياً على غرار مؤتمر الطائف، وهذا حصل برعاية خارجية. يتداخل الخارج والداخل، ولا نعرف من المسؤول عن الأزمة ولا عن الحل. راجح وحده يعرف. نفتش عنه ولا نجده.
تغييب المسؤولية ليس احتيالاً بل هو علة وجود النظام اللبناني؛ علة بمعنى الخلل والمرض، وعلة بمعنى سبب الوجود. النظام موجود ومؤسس على التعمية. لا يراد لنا أن نعرف من يحكمنا، وكيف يحكمنا. خرج مَن يبشّرنا أمس بإشارات إيجابية من الخارج، فطمأننا إلى أن إرادة الشعب لا تقرر مصير الطبقة السياسية ولا تقرر من يحكمنا. قبل ذلك قيل كلام عن الموازنة بأنها سوف تستمر في اللاوجود، فيتم الانفاق بطرق خارج الشرعية، فلا نعرف كيف نحكم. وقبل ذلك أعلن بعض أهل الحكم الانضمام إلى الحلف الدولي ضد الإرهاب. لا تحديد قانونياً، دولياً أو محلياً للإرهاب. شبهناه بما يشبه إعلان الأحكام العرفية، لقتل الإرهابيين على أرض الموقع من دون محاكمة، أي خارج القانون. تعودنا على ذلك، وقد سبق القول في ذلك مرات عديدة. ومن كثرة ما تعودنا على الأمر، فقدنا الثقة بالطبقة السياسية، حتى في ما يتعلق بتقارير الوزارة عن الأطعمة الفاسدة والمحلات والمطاعم التي تتاجر بها وبأرواح الناس. لاحظنا أمس أن المشتريات من هذه المحلات والمطاعم لم تتراجع رغم ما قيل عنها.
تتنصل الطبقة السياسية من مسؤوليتها. تلقي المسؤوليات على المثقفين، على طبقة المثقفين وما يسمى «المجتمع» المدني. تلقى المسؤولية على المجتمع ومن يمثله مدنياً، وكأن هذا التمثيل شرعي. لا يمثل المجتمع قانوناً إلا الطبقة السياسية الراقدة في مجلس النواب ومجلس الوزراء وأجهزة الدولة الأخرى. وهم المسؤولون أولاً وأخيراً.
رأوا أخيراً التمديد لأنفسهم بحجة «الظروف الموضوعية» التي لا تسمح بإجراء انتخابات. وهذه الظروف تشمل المجتمع غير القادر على الاجتماع بما فيه الكفاية على الاحتجاج. أين المجتمع؟ يقول بعضهم؛ وهل سوف يعيد الناس انتخاب هؤلاء الذين في السلطة مرة أخرى؛ السؤال يهدف إلى الإحراج. من التعمية إلى إحراج المجتمع الذي يفترض إخراجه من الأزمة. ألم نسمع الطغاة العرب منذ أشهر وسنوات يستهزئون بالثورة على أنها ليست كذلك، إذ ليس لديها برنامج صاغه مثقفو الشعب وأحزابه؟ بعد وضع هؤلاء في السجون والتنكيل بهم . يطلب منهم أن يفكروا. ويستمر البحث عن النخبة من أجل إدانتها.
لا تشكل النخبة طبقة واحدة أو فئة واحدة. هناك النخبة السياسية، وهناك النخبة الثقافية، والنخبة المالية والنخبة العسكرية. مهمة النخبة السياسية هي أن تحكم وأن تدير المجتمع بحل مشاكله. ولما وصلت هذه المشاكل إلى حد الأزمة، كان على هذه النخبة «السياسية» أن تدين نفسها، لا أن تدين الغير، ولا أن تتذرع بالظروف الموضوعية كي يشمل ذلك المجتمع.
مهمة النخبة الثقافية هي اكتساب المعرفة من أجل إنتاج الوعي. عادة يتهكم أهل السياسة على أهل الثقافة؛ هم وحدهم «العمليون» الذين عرفوا كيفية الوصول إلى السلطة والبقاء فيها، أما هؤلاء أي المثقفون فهم الحالمون، الذين يقولون ما لا يفهم، ولا يفهمون ما يقال. في الأحوال العادية، لا يُسمع كلام أهل الثقافة، فهم خارج السلطة. أما في خضم الأزمة فيتم البحث عنهم لإيجادهم والسماع للحلول التي لا يقترحونها. لا يجدونهم. فهم تشردوا في الأقطار العربية وفي العالم يبحثون عن لقمة العيش، إذ لا يجدون في لبنان ما يسد الرمق، أو هم يخضعون لإغراءات مؤسسات النفط الثقافية؛ وكأن أهل السياسة لا يخضعون للإغراءات نفسها وبأرقام أعلى بكثير.
تختلط الأزمنة. زمن النخب الثقافية طويل المدى. إنتاج الوعي يحتاج إلى وقت طويل، زمن العمل السياسي قصير المدى. الحلول الاجتماعية سياسية تتطلب التعامل مع الراهن؛ تراكم التسويات، ينبغي أن يتم في لحظة الأزمة وإلا كان المصير مؤدياً إلى الانفجار؛ والسياسة هي في بعض جوانبها تسويات تتراكم لإنتاج مجتمع متماسك. أما الثقافة وصياغة الوعي فهما تتطلبان زمناً طويلاً. ألا يتباهى الجميع بالثبات على المواقع، ويتجاهلون الوقائع الجديدة، ويصرون على الرأي ولو بانت معطيات جديدة تتطلب تغيير الاستنتاجات؟
الفصل بين المجالات ضروري. هناك المجال السياسي، وهناك الثقافي والمالي والعسكري، إلخ… وكل مجال يتطلب معايير خاصة به. لكن الخلط بين المجالات حتمي. هل يعتبر من أنجز في المجال السياسي أو الثقافي أو العسكري ناجحاً إذا لم يبلغ مدخوله المالي كماً محترماً. وهل ينال الاحترام إذا كان عديم المدخول مهما أنتج على صعيد المعرفة والسياسة؟ لقمة العيش مغموسة بالذل دائماً. السلطة الحقيقية هي لأصحاب المال. مجال المال يطغى على كل المجالات الأخرى. مهما حاولنا التمييز بين المجالات ومعاييرها المختلفة، إلا أن كل شيء يحتاج إلى تمويل. والتمويل لأي مجال لا يأتي إلا مصحوباً بالرأي، وثقافة معرفة صاحب الرأي؛ وهو صاحب المال في جميع الأحوال. وما أكثر احتقار أهل المال لأصحاب الرأي والمعرفة والثقافة. أهل السياسة أقرب إليهم وأكثر فعالية. هم الذين يملكون سلطة تمرير القوانين والإجراءات اللازمة. وهذه سلسلة الرتب والرواتب. لم تمر بسبب «رأي» أهل المال، برغم وفرة الأرباح وما في الجيوب. صار أصحاب المال هم أولياء أمر السياسة والثقافة والمعرفة. هم أولياء المجال الذي يطغى على كل المجالات.
والنظام السياسي اللبناني بخير ما دام القطاع المالي صحيح الجسم. لا ضرورة لإخراج الجسد الاجتماعي من اعتلاله ما دامت الأموال تتدفق. وهي تجري في اتجاه واحد، أو بالأحرى في الاتجاه الذي يقرره أصحابها: من الفقراء إلى الأغنياء.
تختلط الأزمنة، وتختلط المجالات، ونصر على تجاهل المسؤوليات. أصبح دارجاً أن يقول الأغنياء «أكرمنا الله بالثروة»، ولا يدري الفقراء من أكرمهم بذلك. وصرنا معتادين على التغني بسلامة القطاع المصرفي ما دامت الأموال تتدفق من الخارج، ويخرج العاطلون عن العمل إلى الخارج، ويعيش الباقون على ما يرسل إليهم من الخارج، وينتظر أهل السياسة الإشارات من الخارج؛ ونبيع مثقفينا لمؤسسات النفط الثقافي في الخارج. ثم نصرخ في خضم الأزمة: أين المثقفون أو أين أفكارهم وأين الحلول؟
أفرغنا أحشاءنا من الأفكار. فلنبحث عمن يتحمل الملامة. إذ لا أحد مسؤولا عما يجري، ولا أحد يتحمل تبعة الأزمة. المصير مجهول لأن المسؤول مجهول. بقي علينا أن نصنف الباكتيريا والجراثيم التي تدخل أمعاءنا وتتسلل إلى عروقنا تصنيفاً طائفياً. عندها تبلغ الطائفية أقصاها ويبلغ عدد الطوائف ما لا يحصى. وما لا يمكن إحصاؤه يبقى مجهولاً، فوق طاقة العقل على المعرفة.