بعدما ضرب الربيع العربي اقتصاديات الدول التي عصف بها، ومر بين أنسجة مجتمعاتها، كان طبيعياً أن تمتد آثاره وتداعياته ونتائجه لتؤذي الدول التي خططت له، أو دعمته، أو سعت إلى استغلاله لتتمدد، أو تتوسع، أو تحقق فوائد على حساب جثث الضحايا وجراح المخدوعين. لا يحتاج حال قطر إلى كثير من الشرح، فالصورة أبلغ من الكلام، والواقع أصدق من الآلة الإعلامية الضخمة والأموال التي تتدفق لتبييض وجه الدوحة، وإخفاء خسائر المواطن القطري الذي يسدد ثمن طموحات الحكم وسياساته الفاشلة، ودعمه للإرهاب وجهوده على مدى سنوات لنشر الفوضى والعنف في المجتمعات العربية.
تعرضت مصر ودول أخرى مرت رياح الربيع العربي وأعاصير الفوضى والثورات فوقها إلى توترات وارتباكات سياسية، فانخفضت العملة المحلية في مواجهة العملات الأجنبية نتيجة صعوبات واجهت إدارة السيولة النقدية، وأدى تردي الوضعين السياسي والاقتصادي عموماً إلى مزيد من الفوضى والاضطرابات نتيجة للمطالب الفئوية والأزمات الحياتية للناس، ونتيجة الظروف الاقتصادية الداخلية وطبيعة العرض والطلب وتدني تصنيف هذه الدول في الأسواق المالية غابت الثقة بين المستثمرين، كما انخفضت الموارد الاقتصادية والاستثمارية المحلية والدولية، وارتفع معدل التضخم وهبطت القوة الشرائية، وتدهورت الأدوات النقدية، كما أفضى ارتفاع وتيرة العنف وتفشي الإرهاب إلى فشل تدخل الحكومة والقطاع الخاص في التحكم بالسياسة النقدية, فلم يكن أمام مصر إلا تعويم الجنيه كأحد الحلول التي ثبت بعدها كم كان حلاً سحرياً.
هذا ما عانته مصر كنموذج، لكنها صمدت وعبرت الأزمة التي تفجرت الآن في دول صنعت الربيع، وتآمرت ضد الشعوب العربية لإسقاط أوطانها، وتعاني الآن أزمات اقتصادية حادة ومعضلات مالية شديدة، تماماً كتلك التي مرت بها الدول التي استهدفت بالثورات! ففي إيران التي تسعى إلى التوسع وتهديد الدول المجاورة، هناك تدهور للأحوال الاقتصادية وعدم ثقة المواطنين بعملتهم، بعدما إهدار نظام الملالي أموال الدولة بإنفاقها على تمويل ميليشيات طائفية في المنطقة وتمويل محاولات اختراق المجتمعات العربية من الداخل، ما أنتج صعوبات مالية في البنوك المحلية، ونقص الاحتياطي الأجنبي، وارتفاع معدل التضخم السنوي، والطلب المكثف على الدولار بين الإيرانيين الذين ما زالوا يخشون من تأثير العقوبات الأميركية الجديدة.
لا تمتلك إيران سوقاً حرة للعملات، وتتحكم السلطات هناك في سعر صرف الريال مقابل الدولار الأميركي، وتضع الحكومة الإيرانية موازنتها كل عام وفقاً لسعر صرف الريال مقابل الدولار الذي تحدده، وبالطبع فإن تشديد العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على إيران، بسبب برنامجها النووي منذ 2011، أسهم أيضاً في مزيد من الانخفاض للعملة وتدهور الاقتصاد.
أما تركيا الحليف الأول والداعم الأكبر لتنظيم الإخوان فالانهيار أسرع، فخسارة العلاقات مع دول مؤثرة في المنطقة بعد احتضان الإخوان والدفاع عنهم أفضى إلى خسائر اقتصادية كبيرة، زاد منها انهيار مفاوضات الانضمام إلى اليورو، والخلافات مع الولايات المتحدة، وتوتر العلاقات مع المعارضة، والصدامات مع الأكراد، والتورط العسكري خارجياً، فكان طبيعياً أن يرتفع معدل التضخم وأن ينخفض التدفق الاستثماري الخارجي، ومع اقتراب موعد العقوبات الأميركية على بنك «خلق» الحكومي (المتهم بخرق العقوبات الأميركية على إيران) بدأت الليرة في التدهور ثم الانهيار، ومع انتقاد الرئيس التركي السياسة النقدية للحكومة الحالية ومعارضته رفع الفائدة كانت الطامة الكبرى، ناهيك عن سياسات أردوغان التي أدت إلى نتائج كارثية، فالميزان التجاري يعاني عجزاً واضحاً ويميل لصالح الاستيراد، ولذلك زادت الديون المترتبة على الشركات، وجرى سحب مبالغ نقدية أجنبية إلى خارج تركيا من قبل المستثمرين، وتخفيض وكالة ستاندرد آند بورز تصنيفها الائتماني لتركيا من B إلى BB ضمن فئة الديون العالية المخاطر، والمخاطر الجيوسياسية التي تحيط بتركيا.
اللافت هنا أن الحل التركي اعتمد على عدم الاعتراف بالأخطاء، أو الإقرار بالأسباب المنطقية للأزمة، وتبنى أسلوب الإخوان في رفع راية المظلومية، وإطلاق المزاعم عن استهداف الإسلام ممثلاً في تركيا، وحَوْك المؤامرات من الغرب ودول عربية حقداً على المجتمع التركي! وأخيراً طلب الرئيس التركي أردوغان من شعبه بيع الذهب والدولار وباقي العملات الأجنبية الأخرى وشراء الليرة، فكانت النتيجة انهيار أكبر للعملة المحلية. طال الإرهاب الدول التي صنعته وأسست التنظيمات الإرهابية، ودفع بعض مواطنيها أرواحهم ثمناً لجرائم حكوماتهم التي سعت إلى استخدام الإرهاب ضد شعوب دول أخرى، واليوم تنهار الليرة في تركيا… والربيع أيضاً.