الدولة غائبة و”حزب الله” حاضر في بيئته
وسط سخط شعبي هو الأشرس منذ بداية أزمة شح السيولة الدولارية وانهيار العملة المحلية، وفي ظل تشاؤم هو الأشد حتماً منذ سنوات، باتت مشاهد الذلّ والخلاف بين المواطنين في السوبرماركات يومية، في سباق على “عبوة حليب” من هنا أو “زيت مدعوم” من هناك… إلى ذلك، راجت حالات استغلال للوضع الراهن، حيث يقوم بعض المتاجر الكبرى و”السوبرماركات” بإجبار المواطنين ذوي الدخل المحدود على شراء سلع بقيمة لا تقل عن 150 ألف ليرة لبنانية ليبيعوهم “مواد مدعومة”!
أسعار المواد الغذائية تواصل ارتفاعها المستمر ولا تزال الأسواق اللبنانية تنتظر ما ستؤول إليه التجاذبات السياسية بين الرؤساء الثلاثة، سواء لجهة الإنفراج أو التعقيد، إذ شهدت سوق الصرف تدهوراً ملفتاً بدرجة 650 ليرة لبنانية مقابل الدولار في أقل من 24 ساعة وما زالت تتمايل بين الزيادة والنقصان غير الممسوك. وفيما قررت عدة دول إعفاء السلع الأساسية من الرسوم الجمركية لمدة 6 أشهر بفعل ما تكبدته من خسائر بسبب جائحة “كورونا”، أو تخفيض نسبة الضرائب على المبيعات أو على الأقل فرض رسوم عقابية على المحتكرين للسلع من التجار بما ينعكس إيجاباً على سعر المبيع للمستهلك، تغيب الدولة اللبنانية عن طرح أي حلول جذرية في ظل غياب القدرة وزارياً على الضبط وتصريف الأعمال بما يتناسب مع المشاكل الإقتصادية حتى وصل الأمر بالتفلت الى صدور قوانين احتكارية هجينة في بعض السوبرماركات لا يُحاسب عليها أحد… فمن المسؤول عن هذا الإنفلات؟
إشكالات متكرّرة ومخاوف
مشادات كلامية وتضارب بالأيدي، وسيدة تصرخ بحزن “فرح أولادي عندما قلت لهم سأحضر لكم حليب نيدو! لكن “خلص” خذه مني إن أردت”. قالت لـ “مستقتل” على عبوة الحليب. وفي حادثة أخرى ذكرت إدارة “سبينس”، في بيان، أن مدير أحد الفروع “تعرض للضرب من قبل أحد الزبائن الذي أصر على شراء كمية كبيرة من الحليب والزيت المدعومين من دون مراعاة الكميات المحدودة المتوافرة من الأصناف المدعومة والتي يجب توفيرها لأكبر عدد ممكن من المواطنين بشكل متواز”… كما شهد سوبرماركت فهد فرع فرن الشباك إشكالاً بسبب “الزيت المدعوم” حيث أشار الناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن عبوات الزيت فرغت عن الرفوف بسرعة قياسية بحيث رفض الناس ترك المكان أو الإنتظار لإعادة ملء الرفوف، وأجبروا المسؤول على فتح المخزن واخراج غالونات الزيت المدعوم وأجبروا القيمين على السوبرماركت على بيع الزيت للناس بحضور القوى الأمنية. وقد شهد لبنان عدة حوادث مشابهة في مدن مختلفة، حيث يتدافع المواطنون للحصول على المواد المدعومة لا بل تحوّل هذا الواقع المأسوي إلى “ترند” لدرجة قام بعض المراهقين بتصوير مشاهد على “انستغرام” و”تيك توك” يبرزون فيها مشاهد زفّة واستقبال بالزغاريد لأب يدخل على أبنائه بـ”غالون زيت نباتي”… واقع تداولته الأخبار العالمية بكثير من الأسف عن لبنان!
بحثاً عن حليب
وفي جولة ميدانية لـ”نداء الوطن” في بعض متاجر بيروت، قالت ميرا طوق لـ”نداء الوطن” إنها كأم لطفل حديث الولادة قد أُجبرت على التوقف عن إعطاء ابنها حليب الأطفال بعد استسلامها للواقع المخيف الذي تمر به البلاد، فهي أيضاً تسكن في بشري، وكانت هي وزوجها يجولان عدة مناطق لإيجاد عبوة حليب واحدة بلا جدوى. أما هالة تميم فأشارت لـ”نداء الوطن” إلى أنها اتجهت لاستخدام “السمنة البلدية” بدل الزيت والزبدة في الأكل لأنها سلعة غير مطلوبة وبالتالي أرخص من غيرها، كما أنها تشعر أن الأيام المقبلة ستكون أحلك وأصعب على الجميع، وأن أكثر من سيعاني هم أصحاب الأمراض المزمنة الذين لا خيارات كثيرة أمامهم في استبدال الأكل الصحي بالأدنى منه جودة وبنفس الوقت ترتفع فاتورتهم الصحية بشكل مبالغ به وبفترة بسيطة جداً وتتابع “والمؤسف ان العديد من المحال التجارية الكبيرة قد اختلقت قانوناً من دون أي خوف من السلطات اللبنانية، يقول إن الفقير لا يمكنه تسوق أي بضائع مدعومة ما لم تكن فاتورته 150 ألف ليرة وفي بعض المحال 50 ألفاً! وأعرف بعض الجارات، ممن يعمل أزواجهن كمياومين، يجمعن لائحة بما يريدون لتفادي هذه القوانين، وهناك من يسعى إلى افتعال بعض المشاكل التي لم تنقل عبر وسائل التواصل، وهنا نسأل لماذا على الفقراء تحمل كلفة زائدة فالدعم موجه لهم، واليوم يضطرون لشراء أشياء أخرى مع هذه السلع التي قد لا يحتاجون إليها، لكنهم بسبب حاجتهم إلى “كيس عدس أو أرز” يشترون تلك السلع أيضاً.
تخزين منزلي
وأثار شح المواد الغذائية خلال الفترة الماضية، مخاوف الأسر من استمرار الوضع، ما دفع البعض إلى شراء كميات من المواد والسلع الأساسية و”المونة” وتخزينها في المنازل، وهو ما فاقم الوضع، كما تقول لارا عبد الملك وهي تعمل كبائعة في أحد أكبر المتاجر في بيروت لـ”نداء الوطن” وتتابع “أولاً علينا الإعتراف أن أهالينا، وبخاصة منهم من كان في لبنان خلال الحرب الأهلية، يعانون من “تروما” بعض الشيء والخوف من الغد، ويميل البعض إلى تخزين المواد التي يمكن تخزينها، كالعدس والفاصوليا والأرز والحمص… كما أنهم بعض الشيء على حق، إذ أن اسعار السلع تتغير بشكل شبه أسبوعي وبدرجات جد مؤسفة”. ورداً على سؤال “ما هي أكثر السلع التي تظنين أن أسعارها باتت خيالية” قالت إنها “الفوط الصحية” حيث وبحسبها باتت غالبية الفتيات يشترين فوط الأمهات، لأنها الأرخص وفيها عدد أكبر من الفوط، بالرغم من أنها ليست مناسبة للخروج” وتتابع “لم تعد فقط ضريبة زهرية، باتت ضريبة وجودية”.
أما الشاب علي محمد، الذي يعمل في توزيع المواد الغذائية على جملة من المتاجر في العاصمة والضواحي، فتخوف من لحظة رفع الدعم أكثر من تخوفه من الإشكالات التي تحدث حالياً، كما دافع عن التجار وأرجع رفعهم للأسعار إلى أسباب شح السيولة وصعوبة الحوالات بالنقد الأجنبي ناهيك عن متغيرات الأسعار التي طرأت عالمياً وتداعيات جائحة كورونا.
بطاقة “الإمام سجاد”
وفيما يتبادل المسؤولون في البلاد الاتهامات حول انفلات الأسواق من دون إيجاد حل، يستمد “حزب الله” من الأزمة قوة لتوزيع “بطاقة الإمام سجاد” الخدماتية على العائلات “الشيعية” حصراً في كل المناطق اللبنانية. وهي بطاقة تم العمل بها منذ الأول من تشرين الثاني 2020 بعد سنة من اندلاع ثورة 17 تشرين، وبعدما بدأت معالم التدهور الإقتصادي في البلاد بالإنكشاف بشكل واسع وبدأت أصوات العوز بالإنتفاض على “البيئة الحاضنة”.
في التفاصيل، تمت أولاً دراسة احتياجات العائلات “الشيعية” فجالت وحدات تقصّ تابعة للحزب على المنازل لتعبئة الإستمارات بحيث يتم جمع “داتا” كاملة متكاملة عن أفراد العوائل ونوع العمل والمرجعية السياسية وغيرها، مع ذكر ما إذا كان هناك أحدهم منتسباً للجيش أو الدرك، بحيث ستكون لهم بطاقات خاصة. بعدها تم الأخذ بكل تلك المعلومات بعين الإعتبار وتم تقسيم البطاقات على مستفيد بحسم 30% أو 10% أو غيره، كما تم توزيعها على دفعات من المنتسبين للحزب (يحق لهم بخدمات أكبر ويمكنهم الاستفادة من شراء أدوات الكترونية على أن يكون الدفع من مرتباتهم الشهرية بالدولار) وبعدها للفئات الأكثر فقراً ولمن لديه أولاد أكثر أو عائلة أكبر أيضاً يستفيد من نسبة أكبر من الحسم وبعدها للعائلات متوسطة الدخل وبعدها للمنتسبين إلى الجيش والدرك. أما البطاقة فهي بطاقة ذكية لديها رقم سري خاص بحاملها، يستفيد صاحبها بعدد من الخدمات في أي فرع من فروع “مخازن النور” التابعة للحزب والمنتشرة في كافة المناطق اللبنانية. أما الخدمات التي يستفيد منها حامل البطاقة فهي مواد غذائية ومونة من حبوب ومعلبات وأدوات تنظيف وأدوات منزلية وبياضات ومفروشات وأدوات كهربائية وبفارق سعر عن السوق من 10% إلى 30%.
معظم المنتجات إيرانية المنشأ، ويُقال إنها تصل بطرق التهريب من دون دفع رسوم جمركية، وهي بحسب بعض من يملكون البطاقة “مواد باب عاشر” ومنهم من قال “يا محلا الصيني” كما لا يحق للشاري شراء أكثر من كيس عدس أحمر واحد، كاتشاب واحد، شامبو عدد 2 و800 غرام من البندورة وكيس حمص واحد و5 أكياس أرز… ويقول معظم المستفيدين أن كل المواد المعروضة تختفي بظرف يومين كل “أول الشهر”!
حسين، وهو يساري الهوى من البيئة الحاضنة للمقاومة، يؤلمه أن هذه البطاقات (السجّاد) للشيعة دون غيرهم، في نوع من الفصل بين افراد المجتمع ويتابع “تذكّرني هذه الخطوة بأخبار الحرب، وتؤكّد لي مقولة “كلّ مين إيدو إلو بهالبلد”، إذ تعزّز هذه البطاقة او الاستراتيجيّة، التّعصّب للطائفة او للحزب والله يرحم حبّ الوطن. وأبعد من ذلك، هذه الخطوة تأتي في محاولة تسكيت وارضاء هذا الجمهور خوفاً من أن يتمرّد، فالأزمة لن تستثني أحداً. فبدل أن نخطو معاً كلبنانيّين إلى الأمام وننهض بلبنان، يعود كلّ منّا إلى قوقعته الطّائفيّة ونعود إلى خطاب التّخويف “أكلوا الأخضر واليابس” ويختم “يزعجني كشيعي أن يقال لي عند كل مفترق طرق “انت عم تقبض دولار” بسبب هذه التصرفات تحديداً”