تعيش تركيا على وقع إنهيار سعر صرف الليرة التركية التي فقدت 20 في المئة من قيمتها منذ بداية العام. هذا الإنهيار في العملة التركية والناتج عن تضخمّ هائل في الإقتصاد، وعجزٍ مزدوج في الموازنة والحساب الجاري (5.5 في المئة)، قد تنتج عنه أزمة إقتصادية كبيرة على بُعد أقل من شهر من الإنتخابات النيابية والرئاسية.
إحتلّت تركيا المرتبة الأولى إقليميًا من ناحية الناتج المحلّي الإجمالي أمام المملكة العربية السعودية وإيران، والمرتبة السابعة أوروبيًا والمرتبة 13 عالميًا. بلغ حجم الإقتصاد التركي 905 مليار دولار أميركي في العام 2017 مع معدّل نمو بحدود الـ 7% في الفترة ما بين 2010 و2016 لينخفض بعدها إلى 2.8% في العام 2017 مع نسبة تضخمّ 11.9% .
تنقسم هيكلية الإقتصاد التركي إلى 63% خدمات، 29% صناعة و8% زراعة. تُصدّر تركيا بقيمة 157 مليار د.أ وتستورد بقيمة 234 مليار د.أ. وهذا الأمر ينتج عنه بالطبع عجز في الميزان التجاري مما يؤثرّ سلبًا على ميزان المدفوعات. أما الدين العام التركي فهو تحت السيطرة حيث يبلغ 26.5% من الناتج المحلّي الإجمالي (400 مليار د.أ)، وتبقى البطالة نقطة سوداء في هيكلية الإقتصاد التركي حيث أن هناك شاب عاطل عن العمل بين كل خمسة شباب مع معدّل عام يفوق الـ 11%.
من أهم الشركاء التجاريين لتركيا على التصدير ألمانيا، العراق، بريطانيا، إيطاليا، فرنسا والولايات المُتحدة الأميركية. أمّا في الإستيراد فنجد روسيا، الصين، ألمانيا، الولايات المُتحدة الأميركية، إيطاليا وإيران.
الإستراتيجية الإقتصادية التي إتبعتها تركيا منذ ثمانينات القرن الماضي تعتمد ضمان نسب نمو مقبولة تنهض بالمجتمع التركي. لكن هذه الإستراتيجية واجهتها صعوبات كبيرة على رأسها الأحداث السياسية والإقتصادية التي جعلت نسب النمو هذه مُتقلّبة. وإنتظرت تركيا حكومة العام 2001 لوضع خطّة إصلاحية تضمنت أربع نقاط هي : إستقلالية المصرف المركزي التركي، زيادة رأسمال عدد من البنوك العامة والخاصة، إقفال المصارف المٌصنّفة في وضع الإفلاس، وهيكلة عدد من المؤسسات العامة والخاصة.
أسست هذه الإصلاحات الأرضية الصحيّة لإقتصاد قوي ومالية عامّة جيّدة في المطلق مع وجود عاملين أساسيين: حجم السوق التركي، والإستثمارات الأجنبية المُباشرة التي بلغت في وقت من الأوقات حدود الـ 20% من الناتج المحلّي الإجمالي.
بالعودة إلى هيكلية الإقتصاد التركي، نرى أن القطاعين الزراعي والصناعي يُساهمان بشكل كبير في الإقتصاد التركي خلافًا للإقتصادات المُتطوّرة الأخرى. الجدير ذكره أن الماكينة الإقتصادية التركية عجزت عن سدّ حاجة السوق المحلّي الضخم مما دفعها إلى الإستيراد وهذا يخلق عجزا في الميزان التجاري. وقد وضعت الحكومة التركية خطّة لدفع الإقتصاد لتخفيف العجز في الميزان التجاري من خلال:
أولًا – رفع موازنة البحث والتطوير (0.73% من الناتج المحلّي الإجمالي) إلى مستويات نظيراتها الأوروبية (2.7%).
ثانيًا – تصدير بضائع بقيمة مضافة عالية وعلى رأسها السلع ذات التكنولوجيا العالية.
تمّ شطب المفاعيل السلبية لعجز الميزان التجاري على ميزان المدفوعات من خلال جذب الإستثمارات الأجنبية المباشرة ورؤوس الأموال. لكن الأوضاع السياسية التي تعصف بإستمرار بتركيا لم تسمح لها بالحفاظ على مستويات ثابتة من تدفق رؤوس الأموال بهدف الإستثمار أو السياحة، وبالتالي لم تنجح الخطّة في دفع الماكينة الإقتصادية نحو التطوّر. هذا الواقع، مقرونًا بتفشّي الفساد في العام 2013، جعل الحكومة التركية تُسجّل عجزًا في الموازنة (178 مليار د.أ مداخيل مقارنة بـ 189 مليار د.أ إنفاق). والأهم أن الشركات المُعارضة للنظام تمّت معاقبتها مما زاد من نسبة العاطلين عن العمل.
النمو الذي سجّلته تركيا، ومع فشل الإصلاحات لدعم الإقتصاد وترشيد الإنفاق العام، خلق مناخاً تضخّمياً في الإقتصاد حيث سجلت تركيا تضخّما في العام 2017 بنسبة 11.9% مقارنة بنسبة نمو 2.8%.
لكن الأخطر يبقى من دون أدنى شك وعد أردوغان الإنتخابي بتقليص صلاحيات المصرف المركزي التركي في ما يخصّ السياسة النقدية حيث تلقّت الأسواق المالية هذا الأمر كالصاعقة بما دفع العديد من رؤوس الأموال إلى الهروب وبالتالي إرتفع ميزان المدفوعات وإنهارت العملة التركية. ولم تنجح محاولات المركزي التركي في لجم الإنهيار على الرغم من رفع الفوائد بنسبة كبيرة.
إنهيار العملة التركية، كان له وقع إيجابي على الصادرات التركية وهذا السبب الأساسي للنمو الإقتصادي الذي سجّلته تركيا، إضافة إلى إرتفاع في مداخيل السياحة. إلا أن القيمة الفعلية لهذا النمو ليست إلا نتاج التضخمّ وليس الأداء العالي للإقتصاد التركي.
القطبة المخفية التي أدّت إلى إنهيار الليرة التركية تتواجد في التالي: العجز في الميزان الجاري إرتفع إلى 5.5% من الناتج المحلّي الإجمالي مع تضخّم 12% في شهر شباط الماضي. وبالتالي ونتيجة الـ Rollover للدين العام الخارجي، يجب على تركيا إستدانة ما يقارب الـ 230 مليار دولار أميركي في الأشهر العشرة القادمة أي ما يوازي ربع الناتج المحلّي الإجمالي. هذا الأمر دفع وكالة التصنيف الإئتماني موديز إلى خفض التصنيف الإئتماني لتركيا إلى Ba2 في خانة السندات الخطرة مما رفع كلفة خدمة الدين العام (12% الفائدة على القروض).
في هذا الإطار الأسود للإقتصاد التركي، لم تُساعد سياسة أردوغان في المحافظة على علاقات ودّية مع أوروبا التي كانت لتؤمّن لتركيا قروضا بأسعار فائدة مقبولة. أضف إلى ذلك أن الصراع التركي مع قوى إقليمية يطّرح نظرية إستهداف مُتعمّد لليرة التركية بهدف التأثير على الإنتخابات التركية.
يبقى القول أن الشركات التركية ستدفع ثمنًا مرتفعًا نظرًا إلى أن قروضها بالدولار الأميركي ومداخيلها بالليرة التركية (أقلّه للشركات التي لا تُصدّر) مما يعني أن فاتورة الدين لهذه الشركات والتي شجّعتها حكومة أنقرة على الإستدانة، سترتفع إلى درجة قد تظهر إفلاسات عديدة على الرغم من أن الحكومة التركية أصدرت ضمانات لهذه القروض بقيمة 70 مليار دولار أميركي.
والمخاوف الكبيرة تأتي من القطاع العقاري المُهدّد بفقاعة كبيرة مع العدد الهائل من المشاريع العقارية مع أرقام خيالية لبعض العقارات التي وصل سعرها إلى أكثر من 25 مليون د.أ . والظاهر أن اللاعبين الإقتصاديين في تركيا يعون هذا الواقع الخطر حيث نرى أن الأسعار بدأت بالإنخفاض مع أسعار شقق قد تصل إلى 16 ألف دولار أميركي.
وكما في لبنان كذلك في تركيا، أخذت ظاهرة هروب الأدمغة بالإزدياد مع السياسة التي تتبعها أنقرة مع معارضيها. وهذا الأمر يُشكّل خطرًا على الإقتصاد التركي الذي سيُصبح ملزمًا بإستيراد أدمغة من خارج تركيا في الأعوام المقبلة.
إن ما يحصل في تركيا، الدولة ذات الإقتصاد القوّي، هو نتاج دمج السياسة بالإقتصاد في بلد صنع مُعجزة في العام 2001. لذا نرى أن الحلّ الأساسي لتفادي أزمة إقتصادية تلوح في الأفق، أن تعمدّ الحكومة التركية إلى فصل السياسة عن الإقتصاد وعدم التدخّل في سياسة المصرف المركزي وضمان حرّية اللاعبين الإقتصاديين.تركيا مضطرة الى إستدانة 230 مليار دولار في الأشهر العشرة المقبلة