منذ يومين، التقيتُ مجموعة عبيد، وللمفارقة أنه لم يكن أيّ واحد منهم أسود. وحسبما أذكر، كانوا جالسين حول طاولة مستديرة، وكان بينهم عبد أورنج، وعبد أصفر، وعبد أخضر، وعبد أزرق، وعبد أحمر. وكان النقاش يدور حامياً جداً بينهم حول تاريخ العبودية في الولايات المتحدة الأميركية، وكان هؤلاء العبيد يشرحون لبعضهم أنّ العبودية انتهت عام 1865 بعد الحرب الأهلية الأميركية وإصدار التعديل الثالث عشر على الدستور الأميركي. وكان هناك عبد فَهلوي بينهم، عبد مدموغ على جبينه أرزة خضراء صغيرة، كان يتفاصَح بمعلوماته القيّمة ويخبرهم أنّ عدد العبيد في أميركا عام 1865 كان حوالى 4 ملايين، وقد حصلوا بموجب هذا التعديل التاريخي على حريّتهم، وبات بإمكانهم التعبير عن آرائهم، واختيار وظائفهم وتكوين عوائل حرّة تتمتّع بكامل الحقوق والامتيازات.
غريبون هؤلاء العبيد، فكلّ معلوماتهم دقيقة، ولكن فاتهم من الموضوع تعريف العبودية بحدّ ذاتها، قبل الاسترسال في التنقيب عن المعلومات التاريخية والتفاصيل التي لا تغيّر شيئاً في الحاضر.
من المؤكّد أنّ الأسود ليس عبداً، وأيضاً ليس من الضروري أن يكون العبد أسود، لأنه بلمحة سريعة على الواقع السياسي الحزبي اللبناني، يمكن أن نلاحظ بسرعة قياسية أنّ كثيراً من العبيد ملوّنون على حسب اللون الذي يفرضه حزبهم أو تيارهم أو زعيمهم.
من البديهي أن يكون العمل الحزبي في أي دولة في العالم وفي لبنان عملاً ديموقراطياً تغييرياً، ولكن من غير المقبول أن يكون هناك هذا الكمّ الهائل من المحازبين العميان الذين لا يَمتهنون غير التخوين ولا يستعملون غير لغة الشتم، ولا يعتمدون غير سياسة التدمير ومنطق الإلغاء، ويُعرّون العمل الحزبي من كل أشكال الحريّة. ويتّضح يوماً بعد يوم أنّ عدد المحازبين العبيد بات يفوق عدد المحازبين الأحرار، وما أكثرهم هؤلاء الممنوعون عن التفكير والتحليل، ومرغمون على قبول المعطيات بلا اعتراضات ومناقشات.
يمشون بالأوامر، ينفّذون ولا يعترضون، ينصاعون للتحالفات مهما دارت دفّتها، وحتى لو كانت مناقضة تماماً للمبادئ التي كانوا يجاهرون بها قبل بضعة أشهر، أليست هذه من مظاهر العبودية؟
رأيهم غير مهمّ، قرارهم غير مسموع، تحليلهم محرّم، ورؤيتهم يُطلَق عليها رصاص الحزب ما ان تفتح أعينها. يسيرون جماعات عمياء ويردّدون عن ظهر قلب كل ما يُملى عليهم، أليست هذه من مظاهر العبودية؟
يعملون، يسهرون، ويتعبون… مديونون ومكتئبون ومحرومون من أبسط حقوقهم الإنسانية والاجتماعية والحياتية. مرتّباتهم لا تسمح لهم أصلاً أن يعيشوا بكرامة، والليرة التي يكسبونها بعرق الجبين لا تكفي لمسح مؤخرة جنين… ويحدّثونك بالحرية والازدهار والإصلاح التي توفّرها أحزابهم، أليست هذه من مظاهر العبودية؟
«حاضر يا زعيمي» هي كل ما يعرفون قوله، ولم ينتبهوا يوماً إلى أنّ زعيمهم حَرق دين حاضرهم، بعد أن سرق ماضيهم، ويسيرون كالعبيد على درب مستقبل بلا أفق وبلا مشروع وبلا أي شكل من أشكال الازدهار، أليست هذه من مظاهر العبودية؟
أكثر من 200 عام عاشها هؤلاء القادمون بالقوّة من أفريقيا إلى أميركا عبيداً عند أسيادهم، ولكنهم طوال كل هذه السنوات لم يكونوا عبيداً بعقولهم… فلم تمرّ سنة واحدة من تاريخ عبوديتهم إلّا وخرج من بينهم ثائر ومتمرّد يطالب بحقوقهم، واستمروا على هذا المنوال حتى فرضوا الحرب الأهلية الأميركية الدامية التي استمرّت 4 أعوام، حصلوا من بعدها على حريّتهم.
المشكلة لم تكن يوماً في لون العبد أو إتنيته أو جنسيته أو دينه أو أصوله، المشكلة الحقيقية والموجعة حقاً، هي عندما لا يعرف العبد أنه عبداً، وعندما يعتقد أنّ عبوديته حريّة، وشقاؤه المستمرّ أفضل ما يمكن أن يحصل عليه، والفتات الذي يسقط عن طاولة سيّده هو أشهى ما يمكن أن يأكله.
يصطفلوا الأميركان، سوداً كانوا أم بيضاً بشؤونهم الداخلية وبصراعاتهم التي عمرها مئات السنوات… نحن أيضاً «لا نستطيع أن نتنفّس»، ويا ليتنا ننتفض على عبوديتنا ونثور على أسيادنا ونطالب بحريّتنا، حتى لا تبقى وطنيتنا سجينة قصورهم، ولقمتنا أسيرة جيوبهم، وحريّتنا عبدة مصالحهم.