التفاصيل المتتالية المعروضة أمام المحكمة الدولية في هذه الأيام، تؤكد الانطباع العام القائل إنّ إميل لحود كان أبرز أسباب تردّي العلاقة بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري والفريق السيادي من جهة وحكم بشّار الأسد من جهة ثانية.. وتفرّعا من ذلك الأصل هناك علاقة سببية بين التمديد وجريمة الغدر في 14 شباط 2005.
وعلى وجاهة هذه القناعة، فإنّها في رأي البعض، خطأ شائع يطمس صواباً واضحاً. بمعنى أنّ التمديد «تلا» قرار الاغتيال ولم يسبقه! بل كان حتمياً لأنّه جزء أساسي من تركيبة الجريمة وعُدّتها التحضيرية. الأصل هو قرار «تغييب» الرئيس الحريري في سياق ضرب المناخ التمرّدي الذي تنامى وتصاعد غداة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في أيار عام 2000، وأخَذَ مظاهر مستجدّة من نوع توافق لبنانيين من مشارب طائفية متنوّعة كانت حتى اتفاق الطائف متحاربة ومتقاتلة، ويجب أن تبقى متباعدة ومتناحرة، على هدف واحد مشترك وخطير هو الحدّ من نفوذ الوصاية الخارجية وأدواتها وجيشها وأمنها.
وقبل أي اعتبار خارجي، اقليمي أو دولي (ودولي أساساً) كان الحكم السوري يضع المُعطى التفلّتي المحلي في الصدارة ويعطيه اهتماماً يفوق ذلك المخصّص للشأن الخارجي حتى لو كان بوزن القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن والمأخوذ (بدوره) كأحد أبرز «الأسباب» التي دفعت بشّار الأسد وتركيبته إلى «معاقبة» مَن يعتبرهم المتّهمين المحليين بـ«المشاركة» في صنع ذلك القرار، من الوزير مروان حمادة إلى الرئيس الحريري.
القرار الدولي وحده لا يُنهي الوصاية السورية حتى لو كان صادراً عن مجلس الأمن بل وأكبر من ذلك. واتفاق الطائف مثال كبير (ووحيد) بحيث إنّه جاء نتيجة توافق اقليمي دولي وجزء من عدّة إنهاء الحرب الباردة ومتفرّعاتها.. ومع ذلك تجاهلته الرئاسة السورية ولم تسمح بتطبيق إلاّ ما يناسبها منه ويمكّنها في المحصّلة من تثبيت سيطرتها وتأكيد استلحاقها لبنان وصولاً إلى مطالبتها رسمياً في اجتماعات «واي بلانتيشين» في العام 2000 بين الوفدَين السوري برئاسة العماد حكمت الشهابي والإسرائيلي برئاسة ايهود باراك بـ«قوننة» ذلك الاستلحاق وشرعنته.. والمطلب كان جزءاً من سلّة المطالب السورية في المفاوضات، وأبرزها الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 1967!
أي، ما كان القرار 1559 سبباً لإنهاء الوصاية، بل رافداً لمُعطى داخلي أكبر وأهم هو نضوج حالة التجرؤ على النفوذ السوري وتحدّي أدواته.. وبالتالي فإنّ توجيه ضربة شديدة العنف والصدى والتأثير، مثل الغدر بشخصية من وزن الرئيس الحريري، كان، على ما يبدو من وقائع المحكمة، محاولة لتحقيق هدفَين دفعة واحدة: إنهاء «التمرّد» الداخلي، ووضع المجتمع الدولي مباشرة أمام عجزه عن فعل أي شيء طالما أنّ وظائف نظام الأسد التاريخية المتعلقة بأمن إسرائيل في الجولان، والمحتملة المتعلقة بمعالجة قضية سلاح «حزب الله» في الوقت المناسب، أهم من لبنان ومَن فيه.
أخطأ ذلك النظام في الحساب ولم يخطئ في التشخيص: الإرادة المحلية اللبنانية هي التي أخرجته من لبنان، وهي الآن، من خلال المحكمة، تكشف تفاصيل ومرارات ممارساته وارتكاباته وتُصحح الخطأ الشائع عن التمديد والاغتيال!