تداولت شبكات التواصل خلال الأيام الماضية مشهداً (قيل إنه حدث في مدينة الموصل)، يمكن وصفه بلا تردد بأنه همجي بشع وموجع، ضد الدين وضد الإنسانية.
قبل الدخول في تفاصيل المشهد، لا بد أن أعلن عن اقتناعي بأنه مثلما يوجد «دواعش» ينتسبون إلى السنّة، فإنه يوجد أيضاً «دواعش» ينتسبون إلى الشيعة، وإن تسمّوا باسمٍ آخر كـ «الحشد الشعبي» أو «فيلق بدر». وأنه مثلما يوجد متوحشون وقَتَلة باسم الدين عند هؤلاء، يوجد الشيء نفسه عند أولئك.
أما المشهد، الذي مدته ٢:٢٠ دقيقة فقط وكانت كافية جداً، فيأتي هكذا: مجموعة جثث (مركومة كأنها نفايات) على ضفة وادٍ أو خندق محفور. تظهر في الصورة جرّافة تسحل وتجرف الجثث نحو بطن الوادي.
لا يغطي صوت الجرافة، العالي عادةً، سوى صوت أناس بجوارها يحتفلون بالهمجية ويضحكون على الموت، كأنهم يمارسون لعبة مسلية!
لم تصاحب المشهد، كما يحدث عادةً، أهازيج توضح انتماءات القَتَلة، وكان المشهد سيكون فارغاً بلا فاعلية لو لم ينقذه المُخرج بوضع عَلَم «حزب الله» يرفرف في أعلى الجرّافة.
بعد أيام، أو ربما قبلها، سيتوافر في شبكات التواصل مشهد آخر مشابه لهذا، وإن اختلف السيناريو، لكن سيكون مرفوعاً على الجرّافة هذه المرة عَلَم «داعش».
وبما أنني مسلم سُنّي فسيكون وصول المشهد إليّ بعَلَم «حزب الله» أيسر من وصول النسخة «الداعشية»، ولو كنت شيعياً لكان وصول النسخة «الداعشية» إليّ أيسر وأسرع!
هل أريد القول بأن المشهد مفبرك؟!
لا، ليس مفبركاً، المشهد حقيقي والجثث حقيقية والجرافة حقيقية والمحتفلون حقيقيون والوحشية حقيقية.
ما أظنه مفبركاً هو توظيف الرايات الطائفية في هذه المشاهد البشعة المتبادلة. والأدلة على هذا الاتهام وثائق عديدة، معلنة أو ما زالت في طور السرية، تحدثتْ عن نيات وخطط خارجية لإدخال المنطقة في حروب استنزاف طائفية.
هل ما زال هناك من ينكر هذا المخطط ويعتبره تفسيراً تآمرياً، وهو يرى تسلسل الأحداث بوتيرة متصاعدة منذ وصول الخميني على الطائرة الفرنسية إلى المنطقة في العام ١٩٧٩ حتى ما يجري اليوم؟!
ما ليس نظرية تآمرية هو استجابتنا الشعبية الساذجة للانخراط في الصراع الطائفي الذي تروّجه شبكات التواصل، وتفاعُلُنا معه مشهداً بعد آخر، في مشاهد يصنعها تجار الحروب ومرتزقة الجهاد!
ما حققه مشهد الجرّافة البشع من انفعال واحتقان مبرّر من لدن مشاهديه، وتَنادٍ للانتقام من القَتَلة، ربما استجاب له بعض الشباب المتفاعل بطبيعته فانخرط أو يكاد ينخرط في صفوف حرب الاستنزاف الطائفي، ما يجعل المشهد ناجحاً في تحقيق أهدافه (العليا)، خصوصاً حين يُساهم المخلصون/ المخطئون في انتشاره وتدويره.
(الجرّافة) التي لم نرها حسّاً وما زلنا نشكك في وجودها، هي تلك العملاقة التي تجرف السلم والأمن الاجتماعي في المنطقة، بينما نحن منشغلون بالجرّافات الصغيرة!