لم أستثن أحداً من تهمة قتل الدولة. رأى صديقي أنّني لجأت إلى التعميم للتغطية أو للتعمية أو “لتغيير الشنكاش”، وربّما يقصد في قوله هذا أنّني فعلت ذلك لتخفيف الوقع على المتّهم الرئيسي، وهو يقصد “حزب الله”.
التعميم يقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، على ما ينصّ القسم أمام المحكمة. وسأعيد تأكيده في مقالاتي التالية مع الحيثيات والأدلة والبراهين، على أن أخصّص في كلّ واحدة طرفاً من الذين ذكرتهم في التعميم، ولست أقصد هجاء أحد، بل دعوة الجميع إلى نقد ذاتي ينقلهم إلى مصداقية الدفاع عن الدولة.
سأبدأ بأحزاب اليسار لا للتغطية، بل لأساوي الآخرين بنفسي، على غرار ما فعلته في اختيار العنوان لآخر إصداراتي، أحزاب الله، الذي عمّمت التسمية فيه على كلّ أحزاب الأمّة لما بينها من شبه في بنيتها الاستبدادية، وكان لموقف “الحزب الشيوعي” من الدولة والديموقراطية الحصّة الأكبر.
الدولة أهمّ اختراع بشري، على ما يقول عبد الإله بلقزيز. وهي اختراع قديم العهد، تناوبت الحضارات على نحته أو رسم صورة له إلى أن استقرّ على شكله الحديث الذي لم يكن محل إجماع من الإيديولوجيات والقوى السياسية. لينين كتب عن الدولة والثورة، و”حزب الله” كتب عن دولة الولي الفقيه، و”الجماعة الإسلامية” ومشتقاتها وأخواتها عن دولة الخلافة. الدولة التي نطمح إلى بنائها ليست هذه ولا تلك، بل هي دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص وتداول السلطة والديموقراطية. لا يكون مع هذه الدولة من يتخلّى عن واحدة من هذه الخصائص. من هذه الزاوية يصحّ التعميم.
دولة اليسار الشيوعي، بالتعريف النظري، هي دولة دكتاتورية البروليتاريا. لا لزوم إذن لمتابعة البحث، لأنّ العنوان كشف عن هويتها المعادية للديموقراطية، وهو عداء لا يقف عند الحدّ من الحرية بمعناها العام، بل بمعنى العداء لحرية التفكير وحرية الضمير على وجه الدقّة. لكن البحث يفضي بنا إلى المزيد من الأدلة العملية في واقعنا المحلي.
اليسار الشيوعي حمل السلاح وتحوّل إلى ميليشيا، بذريعة الدفاع عن القضية القومية، لكن أيضاً بهدف تغيير النظام بالعنف المسلّح، وهذا مخالف للبديهيات، لأنّ من مواصفات الدولة المنشودة أنّها تحتكر حمل السلاح واستخدام العنف. قبل السلاح ودكتاتورية البروليتاريا، اليسار الشيوعي أممي لا يؤمن بوجود الوطن، والدولة المنشودة هي التي ولدت مع ولادة الأوطان الحديثة. هذا يعني أنّ السيادة الوطنية، أي سيادة الدولة، أي سيادة القانون، ليست من قاموسه اللغوي. قد يقول قائل إنّ لليسار فضائل، ولا شك أنّ فضائله كثيرة. وقد يقال إنّ اليسار اليوم هو في قلب الثورة، و”الحزب الشيوعي” يحجز خيمته عند أقرب نقطة من السراي الحكومي في ساحة رياض الصلح، وهذا صحيح. لكنّ الصحيح أيضاً أنه لا يريد من ثورته أن تفضي إلى قيام دولة بالمواصفات المنشودة، إذ يقف مع حلفائه في صف جبهة الممانعة بقيادة النظام السوري المجسد أفضل تجسيد طبائع الاستبداد والمعتدي على السيادة اللبنانية، منذ ما قبل انفجار الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 وحتى انفجار المرفأ، مروراً بمتفجّرات ميشال سماحة وسلسلة الاغتيالات.
هل يرى اليسار في هذا التعميم ظلماً؟ والقوى الأخرى هل ترى أنّها بتنظيمها وبرامجها ملتزمة بالمعايير السليمة أم أنّها تنأى بنفسها عن مواصفات الدولة التي يحتاج إليها إنقاذ الوطن من الانهيار؟