يشهد العالم حالياً سياساتٍ غير مسبوقة على مستوى ضبط حركة الأموال بين الدول والسيطرة على السوق النفطية وحرب العملات وأسعار الفائدة وتغيير خريطة الشرق الأوسط، وإنشاء مؤسسات دولية رديفة للحالية تقدّم الصين الى الواجهة العالمية. فهل يغرق العالم بالمواجهات أم يتضافر لإيجاد ظروف أفضل للوجود البشري!
مَن يملك القوة السياسية والتي تنطوي طبعاً على القوة العسكرية لن يرتضي بأن لا يملك القوة الاقتصادية والمالية. فالقوّتان تشيران باتجاه واحد وتستمد الواحدة استمراريتها من الثانية.
وإذا كانت خريطة القوة العالمية حالياً تُظهر تقدم الولايات المتحدة الاميركية بلا منازع جدّي فإنّ قدرة الاميركيين على رسم الخريطة المالية والنقدية والتجارية تبقى الاكبر والاكثر فعالية في الوقت الراهن.
وإذا كانت القوة العسكرية والسياسية الاميركية تظهر من خلال هيمنتها على الساحة السياسية العالمية، وهي تعتبر نفسها معنيّة بأيّ حدث عالمي وتعتبره إذا شاءت مصدر تهديد لأمنها القومي.
وها هي تعمل على تغيير جذري في خريطة الشرق الاوسط منذ بدأت بالتلاعب بمصير العراق ودول عربية أخرى تحت عنوان الربيع العربي وما زالت سائرة في عملية التغيير.
غير أنّ الاحادية الاميركية تبقى مهدَّدة من أيّ قوة ناهضة جديدة. وهذا هو حال الصين وهو العملاق الذي ما زال في مرحلة الاستيقاظ واكتشاف قدرته وقوّته المتصاعدة التي تخوّله لعب دور كبير ولو من المرتبة الثانية حالياً إذ إنّ المرتبة الاولى تبقى في الافق والذي لن يكون بعيداً في الزمن، إلّا إذا حدث تغيير يبدّل المعادلات ويستبعد وصول الصين الى المرتبة الاولى.
ورغم وجود نقاط مواجهة عسكرية ومالية ونقدية واقتصادية وتجارية بين الصين والولايات المتحدة إلّا أنّ ذلك ما زال تحت السيطرة لكنّ هذه المخاطر تدفع الولايات المتحدة الاميركية للتحسّب لذلك، ولرسم الخطط وتغيير التحالفات والعلاقات الدولية. وفي طليعة ذلك كان التغيير التاريخي إزاء ايران. هذا التقارب الذي فاجأ العالم والكثير من الداخل الاميركي ايضاً.
اما الموضوع النفطي فليس في فلك مستقلّ بل يندرج أيضاً ضمن العمل الاميركي على ضبط الايقاع العالمي على مختلف الجبهات. فالنفط فوق الـ 100 دولار اصبح من التاريخ ولن يسمح للأسعار بالعودة الى هذه المستويات.
وفي إشارة الى التغيير الكبير في السوق النفطية فهو لا ينحصر فقط في هبوط اسعار النفط وبلوغ الدول المنتجة للنفط مرحلة عدم التوازن المالي بل وايضاً في فقدان منظمة اوبك التي تُعتبر اللاعب الاساس في السوق النفطية قدرتها على التحكم في هذه السوق وذلك منذ عامين، وقد ظهر ذلك جلياً في سلسلة من الاجتماعات والتي كان آخرها في نهاية الاسبوع الماضي عندما لم تتمكن الدول الاعضاء في هذه المنظمة من الاتفاق على تجميد الانتاج بل إنّ الكثير منها يريد رفع حجم الانتاج وتعزيز حصصه في الاسواق العالمية، وذلك رغم التداعيات السلبية على الاسعار.
وتبقى بيانات المخزونات الاستراتيجية النفطية الاميركية المؤثر الاكبر في الاسعار العالمية، ويعني ذلك إمساك الولايات المتحدة الاميركية بالملف والسوق النفطي في العالم. وتطويع هذا الملف لخدمة سياساتها في مختلف انحاء العالم.
وبعيداً من الملف النفطي هناك النظام المصرفي والمالي العالمي الممسوك كما يبدو من الاحتياطي الفدرالي الأميركي الذي ومن خلال رئيسته يستطيع تحريك الاسواق بالاتجاه المرغوب به ولو من خلال تلميحات كلامية قبل الوصول الى مرحلة القرارات. وهنا ما يحصل مالياً على مستوى اسعار الفائدة الاميركية إذ تبرز الولايات المتحدة قوّتها من خلال الاشارة الى احتمال رفع اسعار الفائدة في وقت يعتمد العالم بأجمعه اسعارَ فائدة منخفضة قريبة من الصفر وحتى اسعار الفائدة السلبية.
وعليه وفي حين تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على الوضع الراهن من خلال سياساتها على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والمالية والنفطية- الاقتصادية- التجارية، يبقى عامل التغيير التاريخي موجوداً وبقوة، وذلك مع تقارب القوى الاخرى لإنشاء جبهة ثانية.
وقد ظهر ذلك من خلال المحاولات بإنشاء مؤسسات مالية ونقدية مرادفة لصندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات العالمية. وكذلك من خلال تقدم الصين على جبهة لفرض اليوان عملة عالمية للتداول لتنافس يوماً ما وبقوة الدولار الاميركي وكذلك من خلال تقدّم الصين الى المراتب الاولى على سلسلة طويلة من النشاطات الاقتصادية العالمية، وذلك بعدما احتلت المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الاميركية على مستوى الحجم الاقتصادي وهي ما زالت تتقدم على هذا المستوى.
إنّ التطورات التاريخية في الصين تُنذر بتغيير وجه العالم. كما أنّ العمل الاميركي الدؤوب للحفاظ على سيطرتها الاحادية من شأنه أن يُحدث تغييراتٍ جذرية على الخريطة العالمية في خدمة الهدف المذكور.
وبعيداً من أجواء التنافس والتنازع على السلطة العالمية تبقى المحاولات لايجاد مناخ صحّي وسلمي عالمي يعتمد على تضافر الجهود في خدمة الانسان ومختلف شعوب العالم الهدف الانساني والمتوازن والمنشود للسنوات المقبلة، وذلك لإعطاء صورة أكثر إشراقاً لمستقبل البشرية.