ما يربطني شخصياً بالراحل الكبير عميد «اللواء» عبد الغني سلام، ينطلق من بيروت، تلك المدينة العظيمة التي نشأنا في ربوعها الرائعة ومناطقها وشوارعها ومعالمها الحضارية والإنسانية والإجتماعية المتميزة، وتاريخها العريق. بيروت التي كانت وما زالت مدينة الثقافة والإعلام المشع والمتميّز، مدينة النشر والكتابة على أشكالها وأنواعها المختلفة، مدينة المجلات والصحف الرائدة والمنطلقة بأركانها الأساسيين (وفي طليعتهم عبد الغني سلام) إلى العالم العربي بأسره، في زمن كانت فيه بيروت وهجا وإشعاعا متفوقا إلى حدود بعيدة على معظم أنحاء العالم العربي، بمزاياها كمدينة تعبق بروح الحرية والديمقراطية والمساواة والعيش المنفتح على شتى صنوف الثقافات والحضارات. من هنا من بيروت الرائعة هذه، التي كان لي شرف الإنتماء إلى صحافتها قبل أنْ تنقلني الأيام والظروف إلى عالم الحقوق والمحاماة، لأكون في ضمن ما أصبحت فيه مهنياً، محامياً لجريدة «اللواء»، انطلق الراحل الكبير وخاض الغمار الصحفي المتعب (ولطالما قيل إنّ الصحافة هي مهنة المتاعب) وصولا إلى إصدار هذه المطبوعة «اللواء» التي أوصلها إلى طلائع الصفوف الإعلامية في هذا البلد الإعلامي بامتياز. أعرف الراحل الكبير عبد الغني سلام تمام المعرفة، وقد كان ذلك الرجل المعجون بالأخلاق العالية والصفات الإنسانية المتميّزة، ورجل الخير المعطاء الذي لم ينس انتماءه إلى أوساط وأجواء وتقاليد مدينته، فأطلق اليد المعطاءة لأهل الحاجة ببذل وسخاء، كل ذلك جنبا إلى جنب عطائه الوطني المندفع من خلال منصاته الإعلامية وفي طليعتها «اللواء». ولن أنسى كيف أنّني هرعت إلى هذا الصرح الصامد في ذلك اليوم الذي تمّ فيه استهداف مكاتبه بعملية تفجير إجرامية، سعيا من المتضرّرين من صراحته وجرأته ورأيه الوطني إلى إسكات ذلك الصوت الحرّ والمعبّر خير تعبير، عن رأي وطني متجذّر في أعماق فكر وإيمان وتطلّعات الوطن عموما وبيروت خصوصا. قابل الإعتداء الغاشم بشجاعة وصلابة، فكان وهو يستقبل جموع المستنكرين في مكتبه بـ»اللواء»، شديد الإفتخار والإعتزاز بمواقفه التي أدّت إلى التعامل معه بمثل هذا الأسلوب الإجرامي الذي يجافي الروح اللبنانية الأصيلة ويناقض إيمانيات هذا الوطن وجذوره المشبعة بروح الحرية والديمقراطية والرأي الحرّ. دون أن ننسى أنّ عبد الغني سلام رحمه الله، قد دخل السجن أكثر من مرّة عقابا له على آرائه وتوجّهاته للأسباب نفسها التي عومل فيها بلغة المتفجرات، ودون أن ننسى إحالة جريدة «اللواء» إلى القضاء أكثر من مرّة، لما كشفت عنه من أمور وقضايا مشبوهة، أزعجت مسؤولا أو متنفّذا أو مستفيدا من أوضاع شاذة او متلطيا في حمايات القريب والبعيد من جهات سياسية أو مخابراتية أو مصالح ذات شؤون وشجون.ودون أنْ ننسى تلك المصاعب المادية التي يمر بها الإعلام الشريف والنظيف، فلا ينفع في مجابهتها إلا التضحية والصمود والمجابهة المكلفة، وكان عبد الغني سلام و»اللواء» معه، في طليعة المضحّين والصامدين والمجابهين. أذكر في هذا المجال أنّني بعد أنْ انتقلت مهنّيا من عالم الصحافة الورقية والإذاعية، وبعد أن انتهت مدّة تعييني كعضو في مجلس إدارة تلفزيون لبنان، وبعد أن أصبحتُ في خضم مهنتي في المحاماة، وجدت نفسي قد اشتقت إلى الكتابة وإلى الإعلام، وكنت أنتقي المنابر الإعلامية التي أطلّ منها من منطلق انتماءاتي الفكرية والقومية والوطنية، مبديا آرائي وانتقاداتي، وأكثر المنابر التي أطللت منها خلال الأحداث من خلال تعليقات سياسية يومية، كانت إذاعة لبنان ومن ثم إذاعة صوت الوطن، إلى أن انتهت تلك الأحداث لا ردّها الله، وانتهت إطلالاتي المذكورة معها، ولما كان شوقي إلى إطلاق رأيي السياسي من خلال موقع يتماشى مع مواقفي القومية والوطنية والاستقامة الخلقية في إبداء الرأي، والإخلاص لقدسية الكلمة، فقد اخترت هذه الإطلالة الأسبوعية في هذه الجريدة بالذات، «اللواء» ذات التاريخ الوطني العريق والرأي الحرّ المتميز، وها أنذا منذ سنوات، وأنا أتابع هذه الإطلالة في هذه الجريدة التي أنشأها الراحل الكبير، عميد «اللواء» عبد الغني سلام، وها أنذا يدا بيد وقلما بقلم وحرفا بحرف، أتابع هذه الإطلالة التي تواكبها إشعاعات منشئها ونهجه الإعلامي المراعي والمدافع عن شؤون وشجون بلده ومدينته، فضلا عن توليه وتبنيه لقضايانا القومية والإسلامية التي لطالما احتاجت إلى أقلام الوطنيين المخلصين من أمثاله. تغمّدك الله أيها «العميد» الراحل بواسع رحمته ورضوانه، والعزاء كُلّه لعائلتك الكريمة ولأسرة اللواء وفي طليعتها حامل الرّاية والجهد والمتاعب من بعدك الأخ الكريم صلاح سلام. وأنني أسمح لنفسي ولجميع محبيك ومقدريك، وهم كثر، أن نكون في جملة من يتقبلون العزاء بك وبمزاياك الفاضلة.