IMLebanon

مفهوم الكنيسة الأرثوذكسية ومواجهة الإرهاب

أثار الموقف الذي أطلقته الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في شأن مباركتها التدخّل الجوي الروسي في سوريا موجة من ردود الفعل المختلفة، وخلقت جدلاً واسعاً أدى الى نشوء ردود فعل من أوساط دينية مشرقية وعربية، واتهمت الكنيسة بأنّها تتقمّص الوجه الجديد للحملات الصليبية، التي شنّتها أوروبا في اتجاه العالم العربي والشرق الأوسط.

موقف أفضى الى تظاهرات، منها لهيئة العلماء المسلمين أمام السفارة الروسية في بيروت، وأخرى لحزب التحرير في طرابلس، الى بيانات شجب وغيرها من ردود الفعل التي لا تزال تتفاعل أصداؤها الى الآن، خصوصاً أنّ الموقف الكنسي جرى التعبير عنه في أكثر من موقف للبطريرك كيريل

– بطريرك موسكو وعموم روسيا، وكذلك تأييد الكنيسة الضمني والعلني للضربة العسكرية تحت شعار أنّ روسيا وبتقدير الكنيسة وممثليها هي اليوم، الأنشط في مواجهة الإرهاب عبر العالم، بل هي لا تسعى الى غايات إقتصادية أو لمصلحة جيوسياسية،

بل تعمل ذلك من منطلق إنساني وموقفها التاريخي بالوقوف الى جانب الضعفاء في العالم، ذلك أنّ الإرهاب هو خطر وجودي على كل العالم، والمعركة ضد الإرهاب هي معركة من أجل عالم يسوده العدل، ومعركة من أجل الشرفاء الذين يقاومون هذا الإرهاب، هي حرب أخلاقية.

وإذا أردتم تسميتها كذلك فهي حرب مقدسة بكل ما للكلمة معنى (من تصريح لرئيس لجنة السينودس والتفاعل بين الكنيسة والمجتمع القمص فسيفولود شابلين)». والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هو رأي الكنيسة الروسية من الحروب المعاصرة والحديثة؟

إنّ أولى تجلّيات هذه المفاهيم ظهرت في الإرشاد الكنسي تحت عنوان «الحرب والسلم»، الذي اعتبر أنّ الحروب هي من تجليات الغضب السماوي، وتحصل بسبب التمرّد البشري على الإرادة الإلهية، وبالتالي فإنّها الشر بعينه، بل هي نتاج للاستغلال الشنيع للحرية التي منحنا إياها الله، بحيث تتفتق القلوب بأفكار شريرة تؤدي الى القتل، والتمرد على المشيئة الإلهية، وانتشار السرقة، السباب وغيرها من الآفات والشرور.

وعلى رغم أنّ الحرب هي الشر، فإنّ الكنيسة قد تدفع بمريديها للقتال، إذا تعلّق الأمر بحياة الأقرباء وتحقيق العدالة، ذلك أنّ هذه الحرب هي أمر مفروض قسراً .وهنا فإنّ الكنيسة الأرثوذكسية تجيز لرعاياها في هذه الحرب العادلة استناداً الى قول المسيح «الذين يشهرون السيف، بالسيف يهلكون».

من وجهة نظر الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، إنّ القيم الأخلاقية في إطار العلاقات الدولية يجب ان ترتكز على مبادئ منها: حب القريب، وعشق الشعب والوطن والتراب، مساندة حقوق الشعوب الأخرى، الإيمان بأنّ مصلحة الشعب لا يمكن ان تنجز بما هو مجافٍ للقواعد الأخلاقية الدينية.

على رغم ذلك، فإنّ المطالبة بتحقيق العدالة بواسطة الحروب غالباً لا تتحقق، لكن التمسّك بالقيم والقواعد الأخلاقية الدينية أثناء الحرب جنّبت البشرية الكثير من العنف والقسوة.

ترى الكنيسة أنّه في العلاقات الدولية الفصل بين ما يسمى الحروب العدوانية والحروب الدفاعية أمراً دقيقاً وبالغ الصعوبة، خصوصاً عندما تتورط فيها دولة أو دول عدة، وتخاض تحت شعار الدفاع عن الشعب الذي هو ضحية العدوان.

وتؤكد وثائق الكنيسة بأنّ تحديد أحقّية لا مشروعية هذه الحرب أو تلك يرتبط بحجم العنف المستخدم ، وأشكال خوض هذه الحروب، مثل التعامل مع الأسرى، والأبرياء وتحديداً الأطفال والنساء والعجّز.

وحتى وفي مواجهة العدوان، يمكن أن ترتكب الشرور والفظائع، تحت تأثير الدوافع الروحية والنفسية، ويمكن أن نجنح نحو العنف، دون إرادة وشعوراً منا بالإنتقام أو بالتفوق على عدوّنا، فالحرب يجب أن تكون محقة، ومن دون غلبة للحقد والجشع والشهوة وغيرها من المشاعر التي هي من رجس الشيطان والجحيم. إنّ التقييم الحقيقي سواء للبطولات، أو للعنف والدمار التي تخلفها الحروب، يقاس فقط من خلال تقييم سلوك المتحاربين، كما جاء في الإرشاد الكنسي.

ما هو موقف الكنيسة من الحروب في السنوات الأخيرة؟

إنّ التاريخ الروسي المعاصر عرف في الفترة الماضية على الأقل حربين شاملتين، الأولى دخول القوات السوفياتية الى أفغانستان 1979-1989، وحرب الشيشان الأولى 1994-1996، والثانية 1999-2000 .

في الحرب الأفغانية وعلى رغم أنّ علاقة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تميّزت بالتحسن مع السلطة السوفياتية، إلّا أنّها كانت قليلاً ما تتعاطى الشأن السياسي، بحيث نجد أنّ عظات البطريرك بيمون لم تتضمّن أية مواقف بشأن هذه الحرب.

بعد انهيار الإتحاد السوفياتي تغيّرت الأمور، فموقف الكنيسة بشأن حرب الشيشان ظهر من خلال عظات البطريرك الكسي الثاني، والذي كان يحظى باحترام وثقة كبيرتين في المجتمع الروسي.

ففي السينودوس المنعقد في 24 كانون الثاني 1994 جاء ما يلي: إنّ استمرار هذه الحرب الدموية يثير القلق الشديد لدى الكنيسة، ومن دون أن نسقط أهمية أنّ عودة القانون والنظام الى الشيشان وإرساء السلم الأهلي والوفاق الشامل بين أهالي هذه الأرض والشعوب التي تتشكل منها روسا الفدرالية.

إنّ ما يثير القلق هو حرب الأشقاء، إنّ أكثر ما يقلق رعاة الكنيسة المعلومات المتضاربة عن عدد الضحايا سواء كانوا شيشانيين أم روساً، إنّ قلوبنا تدمى على حجم الدمار الهائل في مناطق الاشتباكات بحيث تجعل من ظروف حياة المواطنين وخصوصاً في الشتاء أمراً بالغ الصعوبة.

والأنكى أنّ الشعب الروسي لا يعلم شيئاً عما يجري هناك بسبب التناقض في المعطيات والمعلومات والتي يجري تحريفها عن قصد أو من دون قصد.

إنّ الكنيسة ترفع صوتها عالياً في الدفاع عن الضحايا الكثر لهذه الحرب الجهنمية، ذلك أنّ كل التبريرات الرسمية والموقف الرسمي من ضرورات هذه الحرب، لا يمكن أن تبرر الحجم الهائل وعذابات السكان الأبرياء الذين يدفعون أثماناً غالية، حتى أنّ أسمى الأهداف لا يمكن أن يجري تبريرها عن طريق القوة والعنف، إنّ استمرار القتل يعني أمراً كارثياً بالنسبة لعموم روسيا.

لذلك ولأجل هذه الأهداف أناشد المسؤولين الرسميين في روسيا، كما الزعماء الشيشان، وأولئك الذين يقبضون على السيف،أن يسارعوا فوراً الى وقف القتال والعودة الى الحل السلمي، حيث أنه لا يزال هناك متسع من الوقت لأجل ذلك، بحيث يجب أن نستغل ما تبقّى من هذا الوقت ليس لأجل المزيد من سفك الدماء بل من أجل الحياة، وليس من أجل الشر بل من أجل الخير، وليس من أجل تبادل الإتهامات بل من أجل الحوار والمصالحة».

الأمر عينه في الحرب الثانية 1999-2000 ، صدرت مواقف مماثلة من السينودوس المقدس، بحيث أنّ البطريرك ألكسي أيضاً أطلق موقفاً أيد فيه عودة النظام والقانون الى الشيشان ولكن مع الأخذ بالاعتبار حياة الأبرياء الذين يقتلون بالمئات، كما دعا الى شرح حقيقة ما يجري كي لا نعمّق من حدّة الانقسام وانتشار الشائعات وعدم تحمّل الآخر.

موقف البطريرك كيريل بشأن الحرب في سوريا

يختلف موقف البطريرك كيريل عن البطريرك ألكسي كلياً، بتبرير ما يجري. ففي تصريح له أعلن البطريرك كيريل عن أمله بأن التدخل في سوريا سوف يساعد على ارساء السلم الأهلي المنشود في المنطقة وفي سوريا.

ويقول: «إنّ البطريركية الروسية وفي أكثر من مناسبة كانت تدعو روسيا كما دول العالم وكافة المنظمات الدولية كي لا تبقى على الحياد حيال ما يعانيه المواطنون الآمنون في سوريا والبلدان المجاورة من مآس».

ويضيف: «إنّ الكنيسة سواء بما تناهى إليها على لسان ممثلي الكنائس الأخرى ومن خلال اللقاءات التي كانت تجري مع قيادات المنطقة الروحيين باتت تعلم الوضع المأسوي الذي تعيشه شعوب المنطقة والشعب السوري بفعل الحروب والإرهاب الذي وقعوا ضحية له.

إنّ المواطنين الأرثوذكس في بلادنا يتابعون وبألم شديد ما يتعرض له المسيحيون في تلك المنطقة من خلال أعمال الخطف والقتل للرهبان والمطارنة ورجال الدين، وتدمير الآثار التاريخية، كما أن الخطر ليس بأقل مما يواجهه مسلمو هذه المنطقة». واعترف بأنّ الحل السياسي لم يفضِ الى التخفيف من وطأة قتل الأبرياء، ولأجل ذلك لا بدّ من الحماية ولو العسكرية لهم.

إنّ الحكومة الروسية اتخذت «قراراً مسؤولاً لحماية الشعب السوري نتيجة الفوضى التي أشاعها الإرهابيون، ونحن نربط هذا القرار باقتراب موعد السلام والأمن في هذه الأرض المقدّسة، فإذا كنا نريد السلم والخير لشعبي سوريا والعراق وشعوب دول الشرق الأوسط، فلنصلِ كي لا تتحول هذه الحرب الى حرب كبرى، وكي لا يؤدي استخدام القوة الى مزيد من الخسائر البشرية، وكي يعود كل الجنود الروس الى أرضهم وبيوتهم سالمين، يختم البطريرك كيريل.