Site icon IMLebanon

داء النزاع مع إسرائيل لا يعالج بداء المراسيم النفطية

بعد سنوات طويلة من الانتظار، من الطبيعي أن يكون الشعور بالفرج وانتعاش الأمل هو الذي ساد لدى اللبنانيين لدى سماعهم الأنباء الأخيرة حول إعادة تحريك ملف البترول ، وبوادر حلحلة ما يسمى «الخلافات السياسية» التي ساهمت منذ العام 2013 في شل السياسة النفطية… وأخيرا لا آخرا حول الجهود التي يقوم بها بعض كبار المسؤولين لمنع اسرائيل من السطو على المخزون الكبير من البترول والمكثفات والغاز الذي يقدر وجوده تحت مياه المنطقة البحرية المتنازع عليها.

ومن المسلمات أن هذه كلها خطوات أولية لا بد منها لرسم خريطة طريق واضحة للمراحل القادمة، بما في ذلك استدراج عقود استكشاف وإنتاج مع شركات أجنبية، وبرنامج زمني لفتح ثم تلزيم البلوكات تدريجيا. ومن المسلمات أيضا أنه لا بد، قدر المستطاع، من التعويض عن ضياع الوقت الذي حصل، والذي مكّن اسرائيل وقبرص ومصر من أن تسبقنا الى التفاوض لتصدير الغاز الى تركيا وأوروبا.

إلا أن هذه المسلمات كلها تقف والالتباس يبدأ عندما يقول ويكرر البعض ان العقبة الكبيرة التي ما زالت قائمة هي تأخر مجلس الوزراء في إقرار مشروعي المرسومين العالقين الخاصين، أولا بتحديد البلوكات في المنطقة الاقتصادية الخالصة، وثانيا وخاصة، بمسودة اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج المقترح عقدها مع الشركات العالمية. وكأنه يكفي الآن أن يسرع الرئيس تمام سلام وغيره من الوزراء الى التوقيع على هذين المرسومين كي يبدأ الإنتاج بعد سنوات، وتتدفق المليارات التي يحتاجها لبنان لحل كل مشاكله المالية ويندفع على طريق الرخاء والازدهار.

إلا ان السؤال الكبير الذي ما زال مطروحا هو: ما المطلوب من مجلس الوزراء ان يوقع عليه؟ أي بتعبير أوضح: ما هو المضمون الحقيقي والفعلي للمرسومين، خاصة ذلك العائد للتفاصيل القانونية والمالية والاقتصادية والضريبية والإدارية والفنية لحقوق كل من الدولة والشركات العاملة وواجباتها؟ هذا السؤال الذي لم تتم الإجابة عنه بعد طرحه الحس السليم، إذ إن النصوص التي تزداد الضغوط على الحكومة لإقرارها، والتي تشكل جوهر وصلب التشريع البترولي، ما زالت محاطة بسرية لا تقل عن أخطر أسرار أمن الدولة، في حين ان مثل هذه النصوص، وفي كل أنحاء العالم، تناقشها كل الجهات المعنية، بمن في ذلك ممثلو المجتمع المدني، قبل إقرارها الرسمي. هذا ما حصل في اسرائيل ومصر وتونس وغيرها، كما حصل في النروج التي يدّعي بعض المسؤولين في هيئة إدارة البترول الاقتداء بها.

وما يزيد في التخوف من حرمان اللبنانيين من الاطلاع على ما يصر البعض على التعجيل في إقراره، ان ما تسرب من هذه النصوص يدل على انحرافات من شأنها أن تكبد لبنان خسائر فادحة، علاوة على كونها تقف على طرفي نقيض وحقوق السيادة الوطنية على الثروات الطبيعية. هذه الانحرافات التي سبقت الإشارة اليها بإسهاب في أكثر من مناسبة، كان آخرها على صفحات «السفير» في 2 تموز الحالي، وتتعلق خصوصا بالتناقض الصارخ بين أحكام القانون البترولي 132/2010، من جهة، ومشروع المرسوم العالق، من جهة ثانية، من ناحية تشويه نظام الاستثمار وشل دور الدولة في المشاركة الفعلية والإشراف المباشر على الأنشطة البترولبة والغازية، واختزال هذا الدور بحقها طلب تعيين «مراقب» (كذا حرفيا، المادة 16 من مشروع المرسوم) في لجنة ادارة الشركة العاملة. هذا ناهيك عن إتاوة تعيسة لا تتجاوز 4 في المئة على الغاز، وغيرها من الشروط المالية التي تعيد لبنان الى وضع أسوأ مما كان سائدا في ظل الامتيازات القديمة التي نبذتها نهائيا كل الدول المصدرة منذ أكثر من اربعة عقود.

أما المطالبة بضرورة تسريع موافقة الحكومة على المراسيم العالقة، أي القبول بانحرافاتها ومساوئها، بغية التصدي للخطر الإسرائيلي، فهو أقرب ما يكون الى المطالبة بعلاج الداء الصهيوني بداء المراسيم العالقة والذي قد يكون أسوأ وأشد فتكا. والسبب البسيط هو أن موضوع المراسيم المذكورة يختلف كليا عن موضوع النزاع الحدودي مع اسرائيل، من حيث أسباب وطبيعة ووسائل علاج كل منهما. ولا بد من التذكير هنا بأن السبب الأصلي للنزاع مع اسرائيل هو خطأ حصل عند ترسيم الحدود مع قبرص، تمسك به العدو الصهيوني في ما بعد لترسيم حدوده بشكل يسلخ ما يقارب 850 كم مربعا مما يعود للبنان. والأغرب من ذلك أنه لم تتم حتى اليوم أية مساءلة حول الأسباب وحول هوية المسؤول عن هذا الخطأ الذي قد يكلف لبنان المليارات من الدولارات وربما، لا سمح الله، حربا جديدة مع العدو!

ومهما كانت الوسائل اللازمة لحل هذا النزاع وللدفاع عن مصالح لبنان في كامل المنطقة الاقتصادية الخالصة، من البديهي أنه لا يجوز بشكل من الأشكال استعمال هذا النزاع للضغط على الحكومة وكوسيلة تمويه لتمرير نصوص سرية هي أسوأ مما يمكن ان يقبل به أي بلد مستقل وحريص على سيادته وحقوقه.

لهذه الأسباب، يبدو من البديهي أن معالجة إشكالية مضمون المراسيم لا تحتاج لا لحل النزاع مع اسرائيل ولا لحل «خلافات سياسية» لم يعلن بعد صراحة لا عن طبيعتها، ولا عن هوية أطرافها. كل ما هو مطلوب هو إرادة تمليها المصلحة العامة دون سواها لإعادة النظر في نصوص هذه المراسيم، بأفضل ما يمكن من الشفافية، بغية تبديد علامات الاستفهام التي تطرحها، وتصحيح ما تنطوي عليه من أخطاء وشطحات غير مسبوقة.

هذه مهمة غاية في السهولة كان من الممكن لو حصلت أن توفر علينا ضياع سنوات طويلة من المراوحة والمراوغة. إلا أن الفرصة ما زالت قائمة للقيام بها بأسرع ما يمكن، لتحديد إطار وشروط نظام استثمار يتماشى مع ما هو متعارف عليه في البلدان الأخرى، ويؤمن اجتذاب شركات البترول الكبرى، كما يؤمن توازنا معقولا في المصالح المتبادلة بين لبنان والشركات العاملة.