حرب الانتخابات النيابية تأخذ أبعادا تتجاوز التنافس على المقاعد في ساحة النجمة. لا بل تبدو من جهة كأنها أكبر من لبنان واهتماماته، ومن جهة أخرى كأنها أصغر من هموم اللبنانيين. واذا كانت لكل معركة في دائرة خصوصية، فانها تنتظم جميعا في خط عام. لكن الرهانات، على تعددها، خارج أي تصوّر اننا في بداية طريق يقود الى انتخابات ينطبق عليها قول الكسيس دو توكفيل: الانتخابات ثورات دستورية.
والتصعيد شامل، وان تسلّطت الأضواء على دوائر بينها بيروت وطرابلس. فكما في بيروت الثانية كذلك في طرابلس: زحام لوائح غير مسبوق واحتدام مواجهات بالغة التعبير. شيء من التركيز على عروبة بيروت ومن يمثلها وقرار بيروت ومن يمسك به. وشيء من المبارزة بالشعبية لحسم مسألة مهمة هي مركزية أو لامركزية الزعامة السنية، وسط مركزية الزعامة الشيعية والزعامة الدرزية والطموح المصطدم بالواقع لمركزية الزعامة المارونية.
لكن الزحام شديد أيضا على المقعد الماروني في طرابلس. فهو ليس مجرد مقعد لتمثيل الموارنة في طرابلس. إذ هو موقع رمزي لتمثيل كل الطوائف، وتكريس العيش المشترك وثوابت التاريخ في عاصمة الشمال. لا العيش المشترك بالمعنى البيولوجي بل بالمعنى الوطني في اطار العروبة التي تأخذ في لبنان طابعها الحضاري الحقيقي، وبالمعنى السياسي والثقافي والاجتماعي. ومن يختاره الناخبون في طرابلس ويتمنى ان يصوّت له الطامحون في كل لبنان لبناء دولة يجب ان يحمل كل هذه الخصائص والصفات.
والكل يعرف، ولا مجال للهرب من الاعتراف، ان الذي مثّل ولا يزال يمثّل ذلك هو النائب والوزير السابق جان عبيد. واليوم أكثر من أي وقت مضى يحتاج المجلس النيابي الى شخصية من قامة جان عبيد. بما امتلكه وطوّره واختزنه ومارسه من خبرة وحكمة وشجاعة ومعرفة بالتوازنات في لبنان والثوابت والمتغيرات في العالم العربي والصراعات الاقليمية والدولية. فالشاب الذي مشى في التظاهرات الوطنية والعربية في شوارع طرابلس وعرف كل دروبها وصادق نخبتها وحمل هموم أهلها هو الرجل الذي يعرف الطرابلسيون الدرب الى بيته المفتوح. والقادر على جمع الصداقات الحريص على الوفاء والمصارحة مع الإخوان في كل الطوائف هو من رفض الشروط البعيدة من روح لبنان والتي قبلها سواه ليصبح رئيسا للجمهورية.
جان عبيد نجح في إنصاف المعلمين وخرج مرفوع الرأس من محرقة اسمها وزارة التربية. أدار بحكمة وزارة الخارجية في مرحلة كانت السياسة الداخلية في لبنان خارجية. وهو قبل الانتخابات والوزارات وخلالها وبعدها بقي نفسه، رجل الحوار الهادئ المثقف.