Site icon IMLebanon

لبنان بلد الفراغات القاتلة!

 

 

ليس خافياً على أحد في لبنان أن الرئيس ميشال عون الذي رفض «اتفاق الطائف» الذي صار دستوراً للبلاد، لم يتوقف يوماً منذ وصوله إلى بعبدا عن محاولة إدخال نوع من التعديلات عليه، إما بالاجتهاد أو بالمضي في البحث عن تفسيرات لا تقنع أحداً، وخصوصاً لجهة دوره ودور رئيس الحكومة المكلف بعد استشارات نيابية ملزمة لتشكيل الحكومة والتوقيع عليها، ثم إحالتها إلى مجلس النواب لنيل الثقة.

لكن تغيير الدستور ليس عملية مزاج أو هوى عند عون أو أحد، ولهذا مثلاً لم يبالغ البطريرك بشارة الراعي عندما قال يوم الأحد الماضي: «إن المسؤولين استنزفوا الدستور حتى جعلوا نصّه ضد روحه، وروحه ضدّ نصه، والاثنين ضد الميثاق»، متسائلاً أي صلاحيات تسمح بتعليق مؤسسات الوطن؟ وأي مرجع قانوني أو دستوري يبيح هذا التعطيل؟

كان هذا الكلام موجهاً ضمناً إلى بعبدا، وعون تحديداً، لأن الحديث عن «الصلاحيات الدستورية» هو عنوان الموقف الذي يتمترس رئيس الجمهورية وراءه، معتمداً على تأويلات وتفسيرات واجتهادات يمكنه أن يسبغها على النص الدستوري الصريح الذي يحدد المسؤوليات في عملية تشكيل الحكومة، وفي هذا السياق إذا كانت المادة 53 «البند 2» من الدستور تنصّ على أن يجري رئيس الجمهورية استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس الحكومة المُكلف، فإن المادة 64 «البند 2» من الدستور تنص على أن يجري الرئيس المكلف الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقّع عليها مع رئيس الجمهورية قبل إحالتها إلى المجلس لنيل الثقة.

لم تكن كلمة «توقيع» رئيس الجمهورية تعني يوماً أنه مجرد «باش بزق» كما يقول صهر عون جبران باسيل، والأدلة هنا كثيرة جداً ونافرة جداً، ذلك أن التوقيع يأتي نتيجة مشاورات ونقاشات بين الرئيسين، ولهذا مثلاً قام الرئيس سعد الحريري منذ 7 أشهر ونيف بعد تكليفه، بزيارة عون 18 مرة من دون نتيجة، ولهذا أيضاً سبق أن تم تعطيل حكومة الرئيس تمام سلام لمدة 11 شهراً من قبل، ثم تعطيل حكومة الحريري الأخيرة التي استقالت بعد قيام ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 لمدة 7 أشهر، وها هي الأشهر السبعة الأخيرة تمر، والأزمة تتعاظم، والبلد ينهار ويجوع؛ حيث قال الحريري في كلمته النارية في وجه عون: «إنهم يضعون الرئيس المكلف أمام معادلة مستحيلة، إما أن تشكل حكومة كما يريدها فريق رئيس الجمهورية، وإما لا حكومة».

هل من المبالغة القول: إنه عهد الفراغات الرئاسية، التي زادت من تدمير الوضع المتهالك في لبنان؟ قطعاً لا، ففي 31 أكتوبر من العام 2016 تم انتخاب عون رئيساً للجمهورية، بعد فراغ رئاسي استمر عامين ونصف العام، نتيجة تمسك «حزب الله» وحلفائه بمنع تأمين النصاب في كل جلسات مجلس النواب، ثم جاء الفراغ الحكومي مع تمام سلام لمدة 11 شهراً، والفراغ الأول مع الحريري لمدة 7 أشهر، وها هو الفراغ الثاني يصل إلى 8 أشهر في بلد مفلس كلياً يجوع أهله ويغرق في العتمة وسرعان ما ستدهمه الفوضى الاجتماعية والأمنية، ورغم هذا يبقى هاجس تعديل الدستور أو تحويره أو الاجتهاد حوله، ومحاولات الالتفاف، عاملاً يتحكم بمواقف عون والتيار والوطني الحر، رغم أن التسوية السياسية التي نسجها الحريري، هي التي كانت قد سهّلت إنهاء الفراغ المستديم وأوصلت عون إلى بعبدا!

على امتداد عامين ونصف عام من الفراغ قبل انتخاب عون رئيساً كانت شعارات العونيين وحلفائهم التي تملأ الفضاء «عون أو لا أحد»، ولكن يبدو الآن أن عهد عون قد ينتهي في العام المقبل وسط الشعارات التي تقول: «الحريري أو لا أحد»، فماذا يملك عون ليستمر متمترساً وراء مواقفه، في حين قال الرئيس نبيه بري يوم الثلاثاء الماضي، في إشارة واضحة إلى عون وفريقه: «إن البعض يتفنن في اختلاق الأزمات، التي ستطيح كل الإنجازات، وإذا استمرت الأزمات بلا مبادرات لحلها دون مبادرة فردية لمعالجتها، فإنها ستطيح بلبنان… وإنني ملزم أمام الله والتاريخ بأن أصارح اللبنانيين، فالبعض يتعمّد التفنن في صناعة الأزمات»!

وفي إشارة واضحة إلى تركيز عون دائماً على التلويح بالتحقيق الجنائي، قال بري: بالله عليكم ابدأوا متى شئتم بالتدقيق الجنائي، وكفى تضليلاً للناس. فنبيه بري و«حركة أمل» مع تطبيق التدقيق الجنائي وكل القرارات الإصلاحية التي أقرها المجلس النيابي، والتي قاربت 70 قانوناً.

كان آخر خرطوشة أطلقها عون في سياق محاولات تعديل الدستور لجهة سحب التكليف من سعد الحريري، هو تدبيج رسالة وجّهها إلى مجلس النواب، تحولت عراضة فاشلة، لأنها أعادت التركيز على تكليف الحريري تشكيل الحكومة، ما شكّل رداً صافعاً على محاولات إزاحة الحريري، رغم حرص جبران باسيل شكلاً على القول: إن العهد لا يريد إزاحة الحريري.

والمثير هنا أن تؤكد مصادر لبنانية أن الكلمة القاسية التي ألقاها الحريري في مجلس النواب، ووجّه فيها اتهامات إلى عون كانت مشتركة بينه وبين بري، الذي قيل إنه طلب الاطلاع عليها ونصحه بالتخفيف من حدة بعض الجمل والعبارات، لكنها بقيت أشبه بوابل من الاتهامات الموجهة إلى عون، الذي لم يتوانَ منذ أشهر عن اتهام الحريري علناً بأنه كاذب وغير مؤتمن في محاربة الفساد، ولكن الحريري ذهب بعيداً في القول: «ظاهرياً نحن أمام رئيس جمهورية يمارس حقه في توجيه رسالة إلى مجلس النواب، ولكننا بالفعل أمام رئيس يقول للنواب أنتم سمّيتم رئيساً للحكومة أنا لا أريده ولا أسمح له بالتشكيل فتفضلوا خلصوني منه».

ونحن أمام رئيس جمهورية يريد منا تعديل الدستور وإذا لم نفعل يريد تغييره بالممارسة، والأخطر أنه يعطّل أمام اللبنانيين أي أمل في وقف الانهيار المريع، وعلينا أن نعترف أنه يملك باعاً طويلاً في التعطيل، وقال إن الفريق الرئاسي يسعى إلى الحصول على الثلث المعطّل في الحكومة ليتمكن من إسقاطها متى شاء، وإن آخر حيلة خرقاء للوصول إلى الثلث المعطل المقنّع، القول إنه لا يحق لرئيس الحكومة المسلم أن يسمي وزراء مسيحيين، «فلمن يقول هذا الكلام التافه، أنا لن أشكّل حكومة على هوى عون»!

الموقف الذي اتخذه مجلس النواب جدد الثقة بالحريري رئيساً مُكلفاً ودعاه إلى المضي قدماً في العمل لتشكيل الحكومة، ما أسقط رهان عون وزاد الأمور تعقيداً، ولكن ما الهمّ إذا كان الأمر كما قال قبل أشهر عندما سئل؛ إذا لم تُشكل الحكومة إلى أين ذاهبون؟ فردّ، من دون تردد؛ إلى جهنم!

هذا الزجاج المحطم بين عون والحريري ليس من الممكن إصلاحه قط، ولهذا تماماً قال باسيل إذا كان العهد سينتهي من دون حكومة، أي أن عون الذي جاء من الفراغ الرئاسي، سينتهي في الفراغ الحكومي، فإنه يملك من البدائل ما يمكن أن يغيّر من هذه الصورة، لكن الأمور في النهاية لن تكون أفضل من النتائج الصادمة التي انتهت إليها رسالة عون إلى المجلس.

الحديث عن إمكان دعوة عون إلى عقد مؤتمر حوار وطني في بعبدا، لن يقدم أو يؤخر، فتلك المؤتمرات لن يحضرها الجميع وستكون مبتورة، حتى لو حضروها لن تكون لها أي مفاعيل دستورية أو سياسية ملزمة، أما التلويح أو الإيحاء بالذهاب إلى استقالات نيابية لا تقدم ولا تؤخر، فلن يكون من مصلحة الذين قد يستقيلون، الذين منعوا حتى الآن إجراء الانتخابات الفرعية كما هو معروف!