تأتي دعوة «حزب الله» إلى حوارٍ «إلزامي» حول انتخاب رئيس للجمهورية في سياقٍ غير منطقي وخارج الخط الرئاسي، بحسب جهات سياسية عدة. هذه الجهات تتوجّس من دعوة «الحزب»، إنطلاقاً من أنّ الحوار ليس الوسيلة لتحقيق هدف الانتخابات، فطريق التوافق على الرئاسة يمرّ عبر التقاطع بين «الثنائي الشيعي» وخصومه تماماً كما حصل التقاطع المتعدّد على اسم الوزير الأسبق جهاد أزعور. إذ من خلال أي قناة محلية أو غربية، يُمكن لـ»الثنائي» طرح أسماء مرشحين تُعرض على الأفرقاء الآخرين لتحديد المقبولين أو المرفوضين منهم. لكن حتى الآن لا تحمل سلّة «الثنائي» إلّا اسم رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية.
لذلك، ترى هذه الجهات، أنّ «الحزب» إمّا يعمل على شراء الوقت من خلال الحوار لأنّه لا يريد انتخابات رئاسية في هذا التوقيت، وإمّا يريد الحوار لكي ينتزع تعديلات دستورية أو في النظام لم يحدّدها. فبعض المسؤولين في «الحزب» أعلن الرغبة في حوار للتوافق على مواضيع يلتزمها الرئيس من دون أن يحدّدها. وكأنّ «الحزب يوجّه رسالة تلميحاً أو تهديداً: «إمّا أن تسيروا بمرشح الضمانة وإمّا أريد ضمانات». وقد يكون يراهن على حوارٍ ما قد يدعو إليه الموفد الفرنسي جان إيف لودريان في زيارته الثانية المرتقبة، أو على تبدّل في المواقف قد تحمله الأشهر المقبلة.
إلى ورقة «الثلث المعطّل» التي دأب «الثنائي الشيعي» على استخدامها في الحكومات وفي الانتخابات الرئاسية، كما فعل بين عامي 2014 و2016 وكما يفعل منذ 29 أيلول 2022، تاريخ الجلسة الأولى لانتخاب خلف الرئيس ميشال عون، يستحوذ «الثنائي» على ورقة «الميثاقية الشيعية» والتي استخدمها أيضاً في التمثيل الوزاري وفي اتخاذ القرارات، وخصوصاً بعد انسحاب الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2006 التي سمّاها بعد ذلك بـ»الحكومة البتراء».
حتى الآن لم يُشهر «الثنائي الشيعي» ورقة الميثاقية في الانتخابات الرئاسية، إذ إنّه يملك ورقة تعطيل نصاب أي جلسة بالتكافل والتضامن مع نواب آخرين من طوائف مختلفة.
مفهوم الميثاقيّة
بالنسبة إلى مفهوم الميثاقية، تشرح جهات خبيرة بالدستور والقانون، أنّ الميثاقية في التاريخ اللبناني الحديث ارتبطت بميثاق 1943، وتكرّست بصورة واضحة في هذا الميثاق غير المكتوب. ولم يكن المقصود منها تمييز الطوائف بل صيغة عيش مشترك عابرة لكلّ المكونات في البلد. أمّا المحطة الثانية لتبلور مفهوم الميثاقية فكانت في «اتفاق الطائف» عام 1989 الذي نتجت عنه التعديلات الدستورية في أيلول عام 1990. فهذه التعديلات أضافت مقدمة إلى الدستور، تنص الفقرة «ي» منها، على أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
حكومياً، هناك آليات نصّ عليها الدستور في مسائل مرتبطة بالميثاقية، مثل المادة 65 (اجتماعات مجلس الوزراء) التي تنص على أن تُتخذ القرارات في مجلس الوزراء بالتوافق وإلّا بالتصويت، وأنّ هناك مواضيع أساسية تحتاج إلى موافقة ثلثي مجلس الوزراء، مثل الحرب والسلم، والاتفاقيات الدولية، وقانون الموازنة، وقانون الانتخاب، وقانون الجنسية… وبالتالي حين تفرض المادة 65 أكثرية موصوفة لقرارات معيّنة، فهذا يعني أنّ هذه المواضيع تدخل في إطار الميثاقية، والدستور أعطاها أكثرية مدعّمة. وهذه واحدة من الآليات التي تحمي الميثاقية. تبعاً لذلك، إنّ الميثاقية لا تعني الإجماع، بحسب الجهات القانونية نفسها. لكن، على رغم هذا المثل الواضح، وبدلاً من النظر إلى هذه الآلية الدستورية من زاوية أنّ الثلثين ضمانة يُنظر إلى الثلث على أنّه معطّل في الممارسة السياسية.
ويوضح خبير دستوري أنّ الميثاقية تعني القرار بـ»العيش معاً» بأفضل الطرق والاحترام المتبادل، وأن يتمكّن الجميع من المشاركة في اتخاذ القرار، أمّا عندما يُتخذ القرار فعلى الجميع الانصياع له. فلا يمكن أن تعني الميثاقية، تعطيل اتخاذ أي قرار، ولا يجوز أن تتحوّل تعطيلاً كاملاً للمؤسسات الدستورية وعملها.
ميثاقيّة انتخاب الرئيس
بالنسبة إلى انتخاب رئيس للجمهورية، حدّد الدستور أكثرية الثلثين للنصاب والانتخاب في الدورة الأولى، وأكثرية النصف زائداً واحداً للانتخاب في الدورة الثانية. وجرى تحديد هذه الأكثرية للنصاب والانتخاب للحفاظ على ميثاقية الانتخاب. لكن هناك تفسيرات عدة للنصاب المطلوب في الدورات اللاحقة للأولى، واتخذت هيئة مكتب المجلس منذ سنوات قراراً بتفسير النصاب المطلوب للدورة الثانية وكلّ الدورات اللاحقة على أنّه نصاب الثلثين.
وبالتالي دستورياً، وفي الحالة الراهنة، إذا تغيّب المكون الشيعي النيابي بسبب قرار «حزب الله» و»أمل» بالتعطيل، إلّا أنّ نصاب الـ86 نائباً تأمّن، فهذا لا يعني أنّ انتخاب الرئيس مشوب بعدم الميثاقية. هذا علماً أنّ هناك رأياً سياسياً ودستورياً يقول إنّ الأكثرية المطلوبة لتأمين النصاب في الدورات ما بعد الأولى هي أكثرية النصف زائداً واحداً. ويعتبر البعض أنّ هيئة مكتب المجلس ليس من صلاحيتها تفسير الدستور بل هذه صلاحية مجلس النواب مجتمعاً.
الميثاقيّة ليست بين الطوائف
سياسياً، تعتبر جهات عدة، وخصوصاً المسيحية منها، أنّ الميثاقية مسيحية – إسلامية وليست بين الطوائف. لذلك إنّ محاولة تكريس أعراف خارجة عن الدستور ليست مقبولة، فالميثاق مسيحي – إسلامي وليس ماروني- كاثوليكي- أرثوذكسي- سنّي- شيعي- درزي…
الإشكاليات والأسئلة التي لا يجيب عليها الدستور بوضوح كثيرة، وستبقى مطروحة عند كلّ استحقاق، إذا لم تُعدّل الثغرات في الدستور. فهل تتطلّب كلّ الدورات لانتخاب الرئيس نصاب الثلثين؟ ماذا تعني الميثاقية؟ هل تُعتبر الجلسة ميثاقية إذا تغيّب عنها مكوّن طائفي؟ هذا إضافةً إلى تفسير المادة 95 من الدستور التي سبق أن وجّه عون رسالة إلى المجلس عام 2019 لتفسيرها، وضرورة إيجاد مخارج للتأخير في إنجاز الاستحقاقات الدستورية ومنع تعطيلها عبر تحديد المهل، من الدعوة إلى تسمية رئيس مكلف للحكومة إلى تأليف الحكومة. كذلك إيجاد آلية تمنع الفراغ في كرسي رئاسة الجمهورية وتخطّي المهلة الدستورية لإنجاز هذا الاستحقاق.
لذلك، وقبل البحث في أي تعديلات في النظام أو الصلاحيات أو تكريس ممارسات ناتجة عن «أمر واقع»، وإذا كان هناك إرادة لـ»العيش معاً»، يجب بحسب جهات سياسية وقانونية عدة، تعديل الثغرات التقنية في الدستور، وإلّا سيبقى التعطيل، الذي قد يفرض شكلاً جديداً للدولة أو نظاماً مختلفاً، علماً أنّ هذا الأمر ليس متيسّراً، فمقابل أي طرح هناك طرح آخر، ومقابل المثالثة أو تكريس ممارسات من خارج الدستور أو حقائب وزارية أو مناصب عامة هناك طرح اللامركزية الموسّعة.