يتعامل البعض في لبنان مع الدستور وكأنّه من الكتب المقدّسة التي لا يجوز المساس بها، وأي كلام عن تعديل يُقابل من هذا البعض بالتخوين وكأنّه ارتكب خطيئة لا تُغتفر.
وُضِعت الدساتير لتنظيم حياة الناس، وشكّلت نقلة نوعية على مستوى المسيرة البشرية، لأنّ الانتظام ضمن دولة لها دستورها وقوانينها وأجهزتها يشكّل الضمانة لحياة مستقرّة ومزدهرة، واختلاف المجتمعات عن بعضها البعض جعل لكل دولة دستورها، وإلّا كانت خضعت دول العام كلها لدستور واحد.
وقد تمّيز الدستور اللبناني عن دساتير المنطقة بثلاثة عناصر أساسية: مدنية الدولة، الحرّيات داخلها، وتمثيل الطوائف في بنية النظام، لكن قيل إنّ دستور الجمهورية الأولى هو المسبِّب الرئيس للحرب بسبب تغييبه لعامل المساواة بين الجماعات اللبنانية، إلّا أنّ اتفاق الطائف الذي حقّق هذه المساواة لم ينجح في بناء دولة فعلية، وقيل إنّ السبب هو الوجود السوري، وبعد أن خرج الجيش السوري قيل إنّ السبب هو وضع اليد الإيرانية على لبنان بواسطة “حزب الله”.
لكن هل كان ليتحوّل لبنان إلى ساحة للثورة الفلسطينية لولا موافقة فئة لبنانية واسعة؟ وهل كان لينجح النظام السوري بالسيطرة على لبنان لولا موافقة فئة لبنانية واسعة؟ وهل كانت لتنجح إيران في تحويل لبنان إلى دولة ضمن سلطنتها لولا أنّ هناك فئة لبنانية تنتمي دينياً وفكرياً وسياسياً إلى السلطنة لا إلى لبنان؟
والمشترك بين دستور الجمهورية الأولى ودستور الطائف هو النظام المركزي، وهذا النظام بالتجربة سقط وفشل في الجمهوريتَين، وهنا نتحدّث عن وقائع وليس عن موقف شخصي أو رغبة ذاتية في قول هذا الكلام، ولا يفيد بشيء الحديث عن أنّ العواصف التي ضربت لبنان كانت أكبر من قدرة اللبنانيّين على مواجهتها، لأنّ الأنظمة تُمتحن في الظروف الصعبة لا السهلة، وهذا يعني أنّه مع كل هبّت ريح سيترنّح النظام القائم، وخصوصاً أنّ لبنان وسط منطقة لا تتوقّف فيها العواصف.
فلا يفيد بشيء انتظار سقوط السلطنة الإيرانية على غرار انتظار خروج الجيش السوري وقبلهما خروج الثورة الفلسطينية، لأنّ أساسات النظام السياسي في البلد غير متينة، وهذه خلاصة تجربة طويلة تستدعي التفكير لمعالجة الأزمة من جذورها وليس بتوزيع المسؤوليات على الخارج.
ولا تفيد العودة إلى الوراء من أجل البكاء على الأطلال، كون ما حصل قد حصل، ولكل مرحلة ظروفها، وكان المطلوب طبعاً أن يرتكز دستور العام 1926 على اللامركزية كانعكاس لطبيعة المجتمع مع الانتقال من لبنان الصغير إلى لبنان الكبير، وما بنيَ على خطأ كان يفترض إصلاحه في الطائف، لكنّ الأمر لم يحصل، وها نحن اليوم أمام المأزق التكويني نفسه والذي يستدعي المعالجة عند أول مفترق من أجل أن يعود لبنان دولة طبيعية.
وقد يقول قائل بأنّ الواقعية السياسية تستدعي الإقرار بصعوبة تحقيق التغيير المرتجى في ظل ميزان القوى الإيراني الذي لا يسمح بذلك، لأنّ السلطنة الإيرانية تريد لبنان كله، ولن تقبل بترسيم نفوذها ودورها داخله على غرار رفضها ترسيم حدود دورها داخل ما تعتبره أجزاء من سلطنتها في سوريا والعراق واليمن، وأنّه يجب انتظار أن تضعف هذه السلطنة من أجل أن يؤدّي البحث أو الحوار بين اللبنانيّين حول “أي لبنان نريد؟” إلى النتائج المطلوبة، لأنّه في ظل ميزان القوى القائم هناك استحالة لإرساء أي تفاهم حول دولة مركزية أو لامركزية.
وهذا الكلام صحيح، لأنّ المشروع الإيراني يتحرّك ويتمدّد وسط الفوضى، ولا ينوجد سوى في مساحات الفوضى الموجودة أساساً أو التي يفتعل حصولها، وأي مشروع دولة مركزية أو لامركزية يشكّل حاجزاً أمام تمدُّد هذا المشروع، وهذا ما يجعله يتصدّى لكل ما يمُت إلى فكرة الدول الفعلية بصلة.
لكن هل ما تقدّم يعني أنّه يجب انتظار سقوط السلطنة الإيرانية أو الحدّ من دورها من أجل فتح باب الحوار الجدّي حول أي نظام للبنان المستقبل؟ ليس بالضرورة لو أنّ هناك أكثرية لبنانية تُعلن العصيان السياسي برفضها استمرار لبنان ساحة والدولة شكلية، لكن هذه الأكثرية، ويا للأسف، غير موجودة ليس بسبب تأييدها المشروع الممانع، إنما على العكس تماماً الشريحة الأكبر من اللبنانيّين تريد لبنان الاستقرار لا لبنان الفوضى، إلّا أنّ هذه الشريحة تنقسم إلى ثلاث فئات: الفئة الصامتة، والفئة المتزلّفة، والفئة المستسلمة.
فلو أنّ هناك أكثرية مسيحية وسنّية ودرزية تقول لـ”حزب الله” لن نقبل بأن يستمر هذا الواقع المأزوم في لبنان، وأن يترافق هذا الرفض مع عصيان سياسي بتعليق العمل في الدولة على قاعدة إمّا أن تكون الدولة دولة تمسك بإدارة البلد عسكرياً وحدودياً، داخلياً وخارجياً، وإمّا لا لزوم لدولة تخون دورها وتشوِّه صورتها لدى الناس، بالتالي لو وجدت أكثرية من هذا القبيل لكان اضطر “حزب الله” أن يرضخ للأمر الواقع، إلّا أنّه يستفيد من وجود فئة أو فئات معترضة على سياساته ولكنها تتجنّب المواجهة معه، وكأنّ الخيار هو بين مواجهة عسكرية او استسلام، فيما يندرج هذا الخيار أو ذاك في خانة الانتحار، والمطلوب بكل بساطة رفض استمرار الأمر الواقع القائم، والقول للحزب بصراحة تامة بأنّ النسخة التي قُدِّمّت للبنانيّين منذ العام 2005 كارثية ولا يمكن بأي شكل من الأشكال استمرارها، إنما حان الوقت للجلوس حول طاولة لحسم الإشكالية التاريخية حول “أي لبنان نريد؟”.
وبالتوازي مع فئة اللا موقف التي تخدم سياسات “حزب الله”، فإنّ الفئة الانتظارية تؤدّي الخدمة نفسها للحزب الذي يريد الحفاظ على الستاتيكو النزاعي تحت سقف سلاحه، باعتبار أنّ سلاحه خارج النزاع الحقيقي في ظل استحالة تسليمه طوعاً واستحالة نزعه بالقوة، وأسوأ ما شهده ويشهده لبنان هو السياسة الانتظارية التي تضرّ باللبنانيّين فيواصلون هجرتهم ويأسهم، وتخدم الحزب الذي يراهن على عامل الوقت لتغيير الوقائع الديموغرافية والمعطيات السياسية.
فالحليف الموضوعي والاستراتيجي لـ”حزب الله” اليوم هو مَن يُعلن تمسكه باتفاق الطائف ورفضه الجازم البحث في أي أمر آخر، لأنّ هذا ما يريده الحزب تحديداً، باعتبار أنّ من يتمسّك بهذا الاتفاق عاجز عن تنفيذه، وعدم التنفيذ يخدم الحزب، فيما المطلوب توجيه رسالة واضحة للحزب بأنّ الخط الأحمر الوحيد ليس الطائف، إنما عودة لبنان دولة طبيعية، وهذا الأمر لا يتحقّق سوى بتسليم سلاحه.
وبمعزل عن مزايدة من يتمسّك بالطائف، فالمشكلة ليست في مَن هو مع الطائف أو ضدّه، إنما المشكلة في استمرار لبنان ساحة فوضى، وللخروج من هذه الساحة يجب الخروج من الطروحات الكلاسيكية التي لم تؤدِ بالتجربة إلى أي نتيجة، خصوصاً بعد 20 سنة على المراوحة في الفشل، بالتالي حان الوقت لعصيان سياسي بانتظار طاولة حوار تحسم الإشكالية اللبنانية.
لكن ماذا تنتظر الفئة الانتظارية؟ تنتظر أن تضعف إيران في وقت من الأوقات، والوقت غير مهمّ بالنسبة إليها، أكان بعد عشر سنوات او بعد مئة سنة، وبعد أن تضعف تعيد لبنان إلى حكم مركزي يعيد إنتاج الأزمات نفسها، ولكن ماذا لو طال الصراع ولم يَعد من لبنانيّين في لبنان، وبالتالي قد يكون أفضل تعليق على سياسات هذه الفئة “نيال حزب الله بها”.
وفي مطلق الأحوال، لم يكن النظام السياسي يوماً هدفاً بحدّ ذاته، إنما كان دوماً وسيلة لتحقيق تطلعات الشعوب بحياة هانئة ومستقرة ومزدهرة، وبالتالي الطائف ليس هدفاً، إنما وسيلة شأنه شأن النظام السياسي في الجمهورية الأولى، وهذه الوسيلة لم تنجح في توفير مقوّمات دولة فعلية، وعلى الرغم من انّ السبب في المرحلة الأولى كان الاحتلال السوري، والسبب في المرحلة الحالية دور السلطنة الإيرانية، وقبلهما دور الثورة الفلسطينية، وبالتالي مهما تعدّدت الأسباب فإنّ المشكلة مستمرة، ولم يعد مهمّاً أنّ السبب متغيّر ومتحوِّل ومتبدِّل، إنما المهم أنّ الأزمة على حالها، ولهذا السبب يجب الاتفاق على الوسيلة التي تحقِّق الهدف المنشود وهو دولة فعلية لإنسان حرّ في وطن مستقر.
فالوسيلة هي تفصيل، فمَن مِن اللبنانيين أساساً لديه مشكلة مع الطائف إذا كان هذا الطائف يؤمِّن الاستقرار ويحقِّق الازدهار في دولة حرّة وعادلة؟ لا أحد طبعاً، وإذا كان من حاجة لتقديس، فمن يجب أن يقدّس هو الهدف لا الوسيلة، لأنّ الهدف هو الإنسان، والأنظمة وضعت لخدمة الإنسان وليس الإنسان لخدمة الأنظمة.