Site icon IMLebanon

عندما تتقدّم السياسة على الأعراف والدستور والميثاقية

 

ليس جديداً على اللبنانيين الإنشغال بالمحاصصة أو توزيع المناصب والمراكز على الأسس الطائفية والمذهبية، لكن المفارقة المستجدة أن الفرنسيين انفسهم أرسوا هذا النموذج اللبناني من خلال اقرار القاعدة الأكثر شهرة في الادارة اللبنانية والقائمة على معادلة “ستة وستة مكرر”.

 

ولن يكون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متفاجئاً عندما يعلم أن المندوب السامي الفرنسي دي مارتيل عام 1936 لم تقنعه الرسالة السادسة التى أرسلها رئيس الجمهورية اللبنانية حينها اميل اده، بعد خمس رسائل سابقة حول ادارة شؤون البلاد وعملية توزيع المراكز والمناصب. حيث أن المفوض الفرنسي وافق إيجاباً عليها باستثناء الرسالة السادسة التي كرر ارسالها اده معدّلة ومنقّحة، بعدما تضمنت التأكيد أن الحكومة اللبنانية تعلن استعدادها للمساواة بين جميع اللبنانيين في الحقوق السياسية والمدنية، وان تؤمن تمثيل مكونات البلاد في الوظائف تمثيلاً عادلاً لا يستثني أحداً في النظام الاداري. عندها اعاد الفرنسي الرد بأخذ العلم، وبعد 84 عاماً ينتظر اللبنانيون رد ماكرون حفيد دي مارتيل باعطاء العلم والتفسير لأعراف احترف اللبنانيون سياسة التلاعب والتذاكي بالنصوص الحاكمة لأمورهم. فهي كما الأعراف في لبنان كل نص قد يحتاج الى اتفاقية لتفسيره أو للعمل به، وسياسة التشاطر سمة أجادها السياسيون المتعاقبون في الاستعانة بها لادارة دفة الحكم الذي يتعرض إلى هزات طائفية تتحكم بمفاصل البلد.

 

القصة ليست وزارة مال أو توقيعاً ثالثاً أو مناصفة أو مثالثة، الموضوع ان النظام اللبناني يحكمه شرطان جوهريان في صياغة القوانين، الاول التسووية والرضى، والثاني هو حاجة لمد يد العون الخارجية، الا ما ندر.

 

فالدستور اللبناني او اتفاق الطائف او دستور 1926 لم تكن كلها نتيجة توافق داخلي صرف، بقدر ما هو رهن بالحوادث والحروب والمواجهة التي شهدتها الساحة اللبنانية، منذ ان أقر الفرنسي بقيامة لبنان بلداً كبيراً بجبله وساحله واقضيته الأربعة مروراً بصيغة 1943، وصولاً إلى اقرار “اتفاق الطائف” الذي جاء بعد حروب امتدت خمسة عشر عاماً وانتجت دستوراً معدّلاً، تولى السوري وبموافقة السعودي ومباركة غربية وعربية تفاصيل تطبيقه وادارة شؤون البلاد. وعليه ان وضع التوافق على سكة الحكم والادارة ليس جديداً، وأن المناصب بفئاتها كلها محكومة برضى الطوائف من حراس الاحراج الى أعلى المراكز، والمادة 95 من الدستور اللبناني والتي وضعت البلد في مرحلة انتقالية، ثبتت اعرافاً اقوى من الدستور ذاته وتفسيرها أكثر الزاماً من النص بحد ذاته، واستحضار التفاسير الجاهزة لخدمة الهدف الطوائفي أمر ميسر.

 

يؤكد الخبير الدستوري والوزير السابق زياد بارود وجود أعراف قيمتها دستورية لكن شرط العرف “ان يكون مستقراً ولا إشكالية عليه وإلا لا يكون عرفاً”. فهل مثل هذا الشرط ينطبق على إشكالية وزارة المال اليوم؟ يقول بارود: “طالما ان محاضر الطائف غير منشورة ونص الطائف لا يأتي على ذكر هذا الموضوع، ومنذ التسعين ولغاية اليوم شغل وزارة المال وزراء لا ينتمون الى الطائفة الشيعية، لذا نحن أمام عرف غير مستقر”.

 

ويعني مثل هذا الكلام من وجهة نظره ان “المشكل اليوم سياسي وغير دستوري”. أي اننا في لبنان محكومون بحالة طائفية تستند للعرف. مثلاً لا يوجد نص يتحدث عن طائفية نائب رئيس مجلس النواب الذي هو ارثوذكسي بالعرف وبقيت الازمة مستمرة. والى العرف هناك الميثاقية وكلاهما تفسيره يتم من وجهة نظر “في السياسة وليس في الدستور، فاذا شكلت حكومة فيها من كل المكونات الطائفية تعتبر غير ميثاقية سياسياً، لكونها لم تتضمن تمثيلاً للاحزاب التي لها حضورها في الطائفة وهذا تمثيل سياسي وليس دستورياً”.

 

ومن الامثلة على الإستخدام السياسي للدستور ما حددته المادة 65 من الدستور من مواد تحتاج الى اكثرية الثلثين في مجلس الوزراء، تمّ اجتزاؤها في السياسة وصرنا نتحدث عن “الثلث المعطل”. وأحيانا تكون النصوص واضحة وتعتريها ثغرات، مثلاً لا مهلة محددة لرئيس الجمهورية لاجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس للحكومة، ولا مهلة للرئيس المكلف ليشكل حكومته. المشكلة عموماً في من يتولى تفسير الدستور وهذه مهمة رفض مجلس النواب حصرها بالمجلس الدستوري وأناطها به حصراً. هل يعني ما تقدم حاجتنا الى مؤتمر تأسيسي جديد؟

 

يؤكد بارود “وجود أزمة نظام مزمنة تزايدت مع التعديلات التي شهدها الطائف، ولذا فالمطلوب ورشة دستورية لمقاربة كل تلك الثغرات، واظن اننا بحاجة الى انتقال للسلطة بشكل اكثر فعالية، إذ ليس من المنطق الكلام عن تغيير نظام فيما الاولوية اليوم لحكومة انقاذية”.