Site icon IMLebanon

لبنان يتداعى لأنه محكوم بـ«دستور» غب الطلب!

 

 

تستحق ممارسة الطبقة السياسية للسياسة الكثير من التأمل. فالسياسة، وهي بالمبدأ عمل نبيل في خدمة الإنسان ولإعلاء شأن الأوطان، هي في لبنان مغايرة تماماً، لذلك عُلِّق الدستور وبات وجهة نظر وغب الطلب والقوانين مسألة استنسابية! لذلك قد يؤمن هذا المدخل الفهم لتصدع المنظومة السياسية بعد «17 تشرين»، وعجزها عن تأليف حكومة، فيما البلد في القعر بعد 119 يوماً على تكليف الحريري، و192 يوماً على سقوط حكومة دياب. إنها ممارسة بدأت عام 1990، بعد الانتهاء الرسمي للحرب الأهلية، وكانت النتيجة أن دُفع البلد إلى الحضيض مفلساً معزولاً بعد إفقار شعبه: أكثر من 60 في المائة على خط الفقر منهم 30 في المائة من المعدمين! يقابلهم منظومة حديثي النعمة، تحاصصت الدولة وتوزعتها مزارع فكانت الزبائنية والدولة الغنائمية!

في عام 2009 تم في يونيو (حزيران) تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة فتعثر واعتذر في سبتمبر (أيلول)، لكن الاستشارات النيابية أعادت تكليفه ولم تتألف الحكومة إلا بعد 7 أشهر كاملة! أطل الرئيس المكلف على القوى السياسية، مطلقاً بالعلن بدعة كانت تمارس سراً، عندما دعا الأفرقاء إلى تسمية الوزراء الذين يمثلونهم! وكان مبدأ حكومات «الوحدة الوطنية» الفضفاضة مكرساً منذ 1992 وهي اختصرت المجالس النيابية فعطلت الرقابة والمحاسبة، وغالباً ما أعادت الأشخاص أنفسهم مع الحقائب نفسها، في تكريسٍ خطير لنظام المحاصصة الطائفي الذي ولّد الفساد وحمى الفاسدين!

في الفترة التي أعقبت تجويف «انتفاضة الاستقلال» عام 2005، وسقوط الحلم بدولة العدالة والقانون، كان رئيس البرلمان يسمي حصته من الوزراء لحظة طباعة مرسوم التأليف (…) وكثر كانوا يعلنون أسماء من سيمثلهم مسبقاً، والبعض تقبل التهاني قبل صدور مراسيم التأليف! غير أن باسيل بزّ الجميع عندما أعلن مرة أن وزراء تياره وقعوا له على بياض، وبوسعه إقالة من يشاء إن وجد قصوراً (…) يعني أن الوزير المفترض بعد نيل ثقة البرلمان أنه ممثل لمصالح اللبنانيين، كان بوسع باسيل أن يقيله رغم أنف البرلمان! لقد كانت الفرصة متاحة أمام «سياديين» مزعومين لمحاولة العودة إلى الدستور ولم يفعلوا.

هذا النوع من الأداء السياسي وصل إلى حد أن يعلن الحريري عشية انتخابات عام 2018 بعد مؤتمر «سيدر»، أن المؤتمر المذكور سيوفر 900 ألف وظيفة (…)، ويعلن باسيل من دافوس: «علينا تعليم الغرب كيفية إدارة بلد بدون موازنة»، وكان ذلك قبل أقل من 8 أشهر على اندلاع ثورة «17 تشرين» رداً على انكشاف الأزمة النقدية والاقتصادية والانهيارات التي يعيشها لبنان منذ ذلك التاريخ.

كل هذه الرداءة ما كانت لتكون لو أن الطبقة السياسية المتحكمة منذ 3 عقود اعتمدت الدستور وسمحت بقيام دولة طبيعية يكون فيها الجميع تحت القانون وتسودها المساءلة والعدالة، وفيها انتخابات تتيح للناخب أن يحاسب المسؤولين… بل أقاموا في كنف احتلال النظام السوري نظام محاصصة طائفية مقيت، وتم تسلط تحالف شرير جمع ميليشيات الحرب والمال كنتيجة لقانون العفو عن جرائم الحرب، ما سلّط على الدولة ميليشيات تابعة للخارج، وأطلق يدها حرة على الأموال والأرواح، مستندة إلى قوة خارجية ولا شرعية، فكانت خيوط قرار البلد بين يدي ضابط أمن سوري في عنجر تصرف كـ«مندوب سام» ومن خلفه قصر المهاجرين، وبعد حرب تموز/ يوليو انتقل القرار إلى «حزب الله» ومن خلفه قاسم سليماني ونظام الملالي في طهران! والنتيجة انفصام كامل بين الطبقة السياسية وأكثرية اللبنانيين! وكل الصراعات التي عرفها لبنان لم تكن إلّا بهدف تحسين شروط ومصالح فريق على حساب آخر، ولم يكن يوماً الهاجس مصالح الناس والعودة إلى الشرعية، بل ذهبوا في التسوية الكارثية في عام 2016 إلى تسليم قرار البلد إلى الدويلة والبندقية غير الشرعية، بتخلٍ كامل عن السيادة، وكانت الذريعة تلافي الفراغ الرئاسي فسرّعوا تهديم مقومات البلد!

اليوم يدور صراع على تأليف الحكومة، وهو صراع على إدارة الفترة اللاحقة ورئاسة الجمهورية بعد نحو 18 شهراً. ما كان هذا الصراع ليكون لو أن الدستور هو المرجع بديلاً عن البدع والاجتهادات والفتاوى. هنا موضوع تأليف الحكومات كقضية محورية تحتكر القرار عالجها الدستور مسقطاً الاستنساب.

عندما قال المشرّع إن الاستشارات النيابية التي يجريها الرئيس ملزمة، قال في الواقع إن النواب ينتخبون مرشحاً يكلف تأليف الحكومة. وعندما قرر أن الرئيس المكلف يجري استشارات نيابية غير ملزمة، كان يقول إن مجلس النواب الذي كلّف، إما يجيز التأليف ويمنح الثقة وإما يسقط المكلف وحكومته. وبالتالي كان المشرّع واضحاً في عدم منح رئيس البلاد الحق بحجز الاستشارات واكتشاف الأسرار النيابية والأهواء والتأليف، لأن تأليف الحكومة حق للمكلف برئاستها وواجبه. وعندما لم يلزم المشرّع الرئيس المكلف بوقت للتأليف، أراد عدم وضعه تحت الضغط، منطلقاً من ضرورة وجود حسن النية والتعاون في إدارة الشأن العام، وأن مصلحة الرئيس المكلف تكمن في الإسراع بمهمته لأن يصبح رئيساً لحكومة تحكم وليس مكلفاً!

بهذا المعنى لو أن الدستور مطبق فإن الرئيس المكلف هو من يؤلف الحكومة ويتحمل المسؤولية أمام المجلس النيابي الذي اختاره… والشراكة من جانب رئيس الجمهورية هي وطنية، لجهة المساهمة في اختيار الأكفاء والأصلح الموحي بالثقة ومن لا شبهة عليه، وهذه أمور يؤخذ بها حتماً، وتالياً لا يكون لرئيس الجمهورية حصة وزارية، لأن المشرّع قال: يحق للرئيس حضور جلسات مجلس الوزراء متى أراد، وعندما يحضر يترأس ولا يحق له التصويت، لكن عندما يسمي وزراء كحصة تابعة له، يصبح للرئيس أكثر من صوت، ويتحول إلى فريق بدل أن يكون راعي تعاون السلطات وتكاملها.

لأن الدستور معلق، تفجرت الصراعات والمطالبة بالحصص، والتناتش مفتوح اليوم ويغطي دور طهران في استرهان البلد والحكومة، وما من جهة عابئة بالانهيار وتداعياته! حولوا البلد إلى جحيم واستمروا على كراسيهم رغم تفجير بيروت الهيولي وما أسفر عنه من إبادة جماعية و(تروما) ستعيش طويلاً في ذاكرة الناس! وحده الدستور بديل المحاصصة وبديل البدع وبديل الاجتهادات في برلمانات افتقرت لوجود مشرع عاقل محترم، والانقلاب عليه الذي تم على أيدي هذه الطبقة السياسية كان بدفعٍ من دمشق ما كرّس انتهاك السيادة، والتحكم بالقرارات والأولويات، ليسود طويلاً مفهوم «وحدة المسار والمصير» لتغطية الاحتلال! وبعد عام 2005 ذهبوا إلى اعتبار سلاح الدويلة «مسألة إقليمية» مكررين التعامي عن الدستور والسيادة وأشاحوا النظر عن الحدود السائبة المحروسة من قوة لا شرعية ترعى التهريب والموبقات، وبعضهم برر والآخر تجاهل أبعاد حروب «حزب الله» ضد المنطقة ما أخذ لبنان إلى العزلة! وكي لا ننسى فإن قيادة هذه الطبقة السياسية اقتصرت على 7 زعماء استمروا حتى عام 2005 ليخرج اثنان ويدخل اثنان بديلاً عنهما!