لدينا في لبنان مجلس دستوري. شكراً. لكنّ أعضاء المجلس الحالي منتهية ولايتهم. عام مضى على «العهد الجديد»، فيما لم يُعيّن مجلس دستوري جديد. لا أحد يتكلّم في الموضوع، غريب! الجميع متفق على الصمت، وهذا مريب! المسرحيّة مُستمرة
قبل أكثر مِن عامين، انتهت ولاية أعضاء المجلس الدستوري في لبنان. حصل ذلك تحديداً في تاريخ الخامس مِن حزيران عام 2015. لم يُعيّن مجلس جديد. لسببٍ ما لا أحد يتكلّم اليوم في هذه «الهرطقة». اليوم يُذكَر المجلس الدستوري كثيراً بعد إبطاله قانون الضرائب الصادر عن مجلس النواب. لدينا مجلس دستوري! يا جماعة، مجلس دستوركم هذا «خالصة مدّته». لا بدّ مِن تذكير الفرحين هذه الأيّام بـ«فجر الدستور» بهذه المسألة. لا بدّ مِن تذكيرهم، ولو للسخرية مِن أجل السخرية، أنّهم يعيشون في دولة فاشلة…
إن تسالمنا على أنّها «دولة». ممنوع أن تفرحوا. لستم فرنسا التي «تسوّلتم» مِنها فكرة المجلس الدستوري. يوم انتهت ولاية المجلس الحالي، قبل أكثر مِن عامين، قيل إنّه يتعذّر تعيين مجلس جديد بسبب شغور موقع رئاسة الجمهوريّة، وبالتالي لا يُمكن تطبيق المادة 5 مِن قانون المجلس، إذ تنص على وجوب أن يُقسم الأعضاء اليمين أمام رئيس الجمهوريّة. طيّب عال… مضى إلى الآن نحو عام على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة، ولدينا حكومة جديدة، ومجلس نواب مُمدّد لنفسه لكنّه يعمل، فلِمَ لم يُعيّن بعد مجلس دستوري جديد؟ هذا المجلس «الأسطوري» يتألّف مِن 10 أعضاء. يُعيّن، بحسب القانون، 5 منهم مِن قبل مجلس الوزراء (بأكثريّة ثلثي أعضاء الحكومة)، فيّما يُعيّن النصف الآخر مِن قبل مجلس النوّاب. عام مضى على «العهد الجديد» والمجلس الدستوري خارج الولاية. لماذا يا حضرة الحكومة؟ لماذا يا حضرة مجلس النوّاب؟ لماذا يا حضرة رئاسة الجمهوريّة؟ لن تجد كلمة واحدة حول هذه المسألة، كجواب، طوال العام الماضي، ولو مِن باب المماحكة السياسيّة. ما هذا التوافق المريب!
ثمّة مسألة مضحكة أخرى، وهي أن «الطقم السياسي» (الطقم الأبدي) توافق أخيراً على قانون جديد للانتخابات النيابيّة. الكلّ مشغول الآن بهذه الانتخابات المقبلة. فاتهم أنّه لا بدّ مِن مجلس دستوري لكي تُجرى الانتخابات. هذا مجلس مِن أساسيات عمله بتّ الطعون النيابيّة المُحتملة. لا يُمكن لوم أعضاء المجلس الدستوري الحاليين، هم في مكانهم، هل نُريد مِمَن هو في موقع سُلطة أن يُنادي باستبداله، أو أن يرفع صوته عالياً: لقد انتهت مدّتي! طبعاً لا. أحد هؤلاء الأعضاء، وفي حديث مِن «تحت الطاولة» معه، يُحيلنا إلى المادة 4 مِن النظام الداخلي لمجلسه، التي تقول: «عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء منهم وحلفهم اليمين». ولكن يا حضرة العضو الدستوري، هذه مادة تُشير إلى حالة استثنائيّة، إلى مدّة استثنائيّة، وفق المبدأ الذي يُردّده «فقهاء الدستور» عن عدم القبول بالشغور في مرفق عام، ولكن لا يُمكن أن تُصبح قاعدة عامة! اللافت أن العضو الدستوري يوافق على ذلك. يُقرّ بذلك. يقول: «صحيح، إنّ من الضرورة في مكان إعمال تداول السلطة في المجلس الدستوري وتجديد تكوينه للقيام بأعبائه الجِسام». جيّد. مرّة أخرى، لا عتب هنا على أعضاء المجلس الدستوري، إنّما على «السُلطة / السُلطات السياسيّة» مجتمعة.
نتحدّث هنا عن المجلس الدستوري في لبنان الذي تعرّض، منذ تعيين أعضائه الحاليين عام 2009 (لولاية ستّ سنوات) لأكثر مِن اختبار، وكان أكثرها «فضائحيّة» عام 2013 عندما استنكف ثلاثة مِن أعضائه عن حضور أربع جلسات متتالية، كانت تُعقد لبت الطعن المقدّم في قانون التمديد الأول لمجلس النواب. لا يكتمل نِصاب «الدستوري» إلا بحضور ثمانية أعضاء. المداومون على التغيّب كانوا ثلاثة، المداومون على الحضور كانوا سبعة، إذاً لا نصاب. هكذا، أعلن «الدستوري» فشله بعد مضيّ المهلة، وبالتالي سرى مفعول التمديد. آنذاك، كان رئيس مجلس النواب مع التمديد لمجلسه، ومعه أيضاً النائب وليد جنبلاط، فصادف، والصدف يُمكن أن تكون مدبّرة في بلاد العجائب، أن أعضاء «الدستوري» الثلاثة كانوا مِن الشيعة والدروز. نحن أمام «مجلس ملّيٍّ» آخر في لبنان. يوزّع أعضاؤه العشرة، عرفاً لا نصّاً، وفق الآتي: اثنان موارنة، اثنان شيعة، اثنان سنّة، اثنان أرثوذكس، واحد درزي، وواحد كاثوليكي. يتوافق «ملوك الطوائف» على تعيين هؤلاء… وخذ يا دستور بلاد «المساواة»! في الترشيحات «الشكليّة» للأعضاء الجدد، التي حصلت مع انتهاء ولاية المجلس الحالي، تقدّم كثيرون لـ«الوظيفة» مِن مختلف الطوائف، باستثناء الكاثوليك. لم يتقدّم مِنهم أي مُرشّح. ما العمل الآن؟ ستختل التركيبة وتنهار البلاد. البعض، آنذاك، طالب بتعديل نص القانون للسماح بإعادة فتح باب الترشيحات! على كلّ حال، مرّت «على خير» كون التعيينات الجديدة في «الدستوري» لم تحصل أصلاً. الآن، في حال قرّر المعنيون في السلطة تعيين مجلس دستوري جديد، سيكون عليهم، بحسب «عضو دستوري» (حالي) تعديل القانون لإعادة فتح باب الترشيحات، إنّما هذه المرّة بسبب خروج نحو 70 في المئة مِن المرشحين يومها (قبل أكثر مِن عامين) عن الشروط القانونيّة لقبولهم، مثل تخطّيهم السنّ القانونيّة وما شاكل. يا للورطة!
بالمناسبة، المجلس الدستوري الحالي، الذي أسقط قانون الضرائب الأخير، والذي تابع ويُتابع قانون الإيجارات، كان نفسه قد خرق قانونه الخاص عام 2012. كان قانونه (قبل تعديله عام 2013) ينص على إجراء قرعة (استلهاماً مِن التجربة الدستوريّة في فرنسا) بعد مضي 3 سنوات على تعيين الأعضاء (مدة ولايتهم الكاملة 6 سنوات). وتهدف القرعة إلى استبدال نصف أعضاء المجلس بأعضاء جدد. لم يحصل ذلك. كانت حجّة المجلس الدستوري يومها «الفراغ في السلطة» التي تُعيّن الأعضاء الجدد، وبالتالي لِمَ القرعة؟ فاتَهم أنّه لا بدّ من أن يلتزموا بالقانون كما هو، في مطلق الأحوال، وعندما لا تُعيّن السُلطة السياسيّة بدلاء، فلا مشكلة ببقاء الأعضاء الحاليين في عملهم إلى حين التعيين (وفق المبدأ الذي يعمل الأعضاء، هم أنفسهم، به الآن، بعد انتهاء ولايتهم منذ أكثر مِن عامين). آنذاك نشرت «الأخبار» تقريراً بعنوان «المجلس الدستوري غير دستوري» (4 شباط 2013). كان كلاماً في الهواء. مَن يتكلم في أمر «تافه» كهذا فيما البلاد «على كف عفريت»؟ العفريت الأزلي إيّاه.
مَن يذكر استقالة رئيس المجلس الدستوري وجدي ملاط مِن منصبه؟ حصل ذلك عام 1997. كان ذلك بسبب الضغوط السياسيّة على خلفيّة الطعون الانتخابيّة. مَن يذكر تعطّل المجلس نفسه عام 2003 بعد انتهاء ولاية 5 مِن أعضائه، قبل أن يتوقفوا عن تأدية مهماتهم بشكل تام، فتعطّل المجلس تماماً إلى عام 2009. بلغت التدخلات السياسيّة (المذهبيّة تلقائيّاً ــ مِن مختلف الجهات) في عمل المجلس حدّ «المجازر الدستوريّة». يحتاج سردها إلى موسوعة. وزير العدل بهيج طبارة، زمن استقالة ملاط، قال: «إنّ المجلس الدستوري هو مؤسسة أساسية في كل دولة تطمح إلى أن تكون دولة». الطموح مشروع طبعاً. بصرف النظر عن ملاط واستقالته، أسبابها وخلفيّاتها، إنّها تسجّل للرجل الراحل كلمة ربّما تلخص كلّ شيء عن هذه البلاد: «إنّ المجلس الدستوري أنشئ في لبنان قبل أوانه، فالبلد لم يبلغ بعد سن الرشد السياسي وتطوره الديموقراطي، ما يتيح له إنشاء قضاء دستوري مستقل».