توصّل الاجتماع الثنائي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان إلى «تفاهم ناقص» بحسب معلومات ديبلوماسية متقاطعة. وفي إطاره، أبدى بوتين تفهّم موسكو لهواجس أنقرة من قيام دويلة كردية في سوريا، وفي المقابل أبدى أردوغان «وجهة نظر متحفظة» حيال مطلب موسكو إقفال حدودها بكاملها في وجه استمرار التدفّق غير المقيّد للمسلّحين والسلاح عبرها الى سوريا لمصلحة المعارضة.
وفق هذه المعلومات، لم يخفِ أردوغان أنه لا يستطيع في هذه اللحظة اتخاذ قرار بإقفال الحدود بنحوٍ كامل في وجه عبور المسلحين من تركيا الى سوريا؛ لكنّه وعَد بأنه سيقفلها في هذه المرحلة جزئياً.
وبرَّر مقترحه هذا، بأنّ تركيا لديها مصالح مهمة في سوريا، وهي معنيّة بالاستمرار في إدارتها، واعترف بأنّ ورقة الحدود تشكل جزءاً أساساً من معادلة أنقرة لبقائها في الساحة السورية بغرض حماية مصالحها الاستراتيجية فيها.
ورأى أنّ أنقرة لو تخلّت عن أوراق تدخلها في سوريا بنحوٍ كامل وفي هذا الوقت المبكر، ومن دون ضمانات في المقابل؛ فإنّ هذا سيفضي الى إخراجها من اللعبة السورية المنخرطة فيها قوى إقليمية وعالمية كبرى.
ووفق وعد أردوغان لبوتين، ينتظر أن تُمارس أنقرة نوعاً من الضبط لحدودها مع سوريا، أما انتقالها من مرحلة الإقفال الجزئي الى مرحلة الإقفال الكامل فهو رهن بِمَا ستؤول اليه مسارات نزاع الإرادات الدولية والإقليمية المحتدم حالياً في سوريا، وما إذا كانت نتائجه ستطمئن تركيا، خصوصاً لجهة عدم تحقّق هاجسها الأهم المتمثل في إنشاء دويلة كردية.
وترى أوساط أوروبية أنّ أردوغان بعد الانقلاب الفاشل عليه كما كان قبله، يستمرّ في لعبة مقايضته حول ربطه فرض رقابة حاسمة على حدود بلده مع سوريا وأوروبا، في مقابل تحصيله مكاسب استراتيجية من روسيا وإيران بالنسبة إلى سوريا، ومن الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى حدوده مع اليونان بوابة النزوح السوري من تركيا الى أوروبا.
بدا أردوغان في الكرملين صريحاً لجهة أنه يريد قطع الطريق على إمكانية تعرّضه لخسارة استراتيجية في سوريا، نظراً لأنّ خريطة الدويلة الكردية فيها بدأت ترتسم تحت ناظريه بغطاء دولي تقوده أميركا، ما يُهدّد بنقل عدوى الدويلة الكردية في سوريا الى تركيا لاحقاً. ولذلك فهو مصرّ على إبقاء سلاح الحدود مع جارته السورية في يده حتى يطمئنّ الى أنّ أزمتها لن تكون لها تتمّة داخل بلده.
وتركّز مطلبه الأساس خلال حديثه مع بوتين في إطار الملف السوري على محاولة أخذ تعهّد روسي بمنع قيام دويلة كردية في سوريا. ومن حيث المبدأ، فإنّ بوتين لا يواجه إحراجاً لجهة تقديم تطمينات لأردوغان في هذا المجال. فطوال الفترة الماضية تشارك الروس مع الإيرانيين في الغمز من قناة رفضهم الدولة الكردية من خلال التمسّك بعبارة ديبلوماسية تعلن تمسّكهما بـ»وحدة الأراضي السورية».
وبين ثنايا هذه العبارة تضمر موسكو وطهران رفضهما إنشاء دويلة كردية لأنّ إجراء من هذا القبيل يؤسّس لتقسيم سوريا. وحتى أنقرة انضمّت أخيراً إلى حلف الناطقين بعبارة «وحدة الأراضي السورية»، وذلك من باب إدراكها لما يهمّها منها تحديداً، وهو «رفض الدويلة الكردية».
السيل «التركي» أم «الجنوبي»؟
بند آخر بقيَ التفاهم في شأنه ناقصاً أيضاً بين أردوغان وبوتين، ويتعلق بإيجاد صيغة مشترَكة لطريقة إدارة مصالحهما في الغاز الروسي الذاهب الى أوروبا عبر الأراضي التركية. ويمكن الاستدلال على هذا التباين، بحسب المصادر عينها، من خلال رصد تمسّك الروس بإطلاق تسمية «السيل التركي» على خط الغاز الذي هو محلّ بحث مشترَك بينهم وبين تركيا؛ فيما يطلق الأتراك على هذا الخط نفسه تسمية «السيل الجنوبي».
والواقع أنّ كلّ واحدة من هاتين التسميتين لها دلالة استراتيجية مختلفة تماماً عن الأخرى: فـ»السيل التركي» هو أنبوب الغاز الذي يقع منشأه في روسيا ويعبر الأراضي التركية من جهتها الشرقية، وهدفه تقديم ما تحتاجه تركيا من الغاز؛ أما «السيل الجنوبي» فهو الخط ذاته ولكن مع لحظ ضرورة عدم توقفه في اسطنبول حسب مفهوم «السيل التركي»، بل أن يصل الى أوروبا.
لا تريد موسكو موافقة أنقرة على مفهومها الاستراتيجي لخط أنبوب «السيل الجنوبي» لتجنّب إعطائها ورقة كبيرة تجعلها شريكاً بالتحكم في مرور غاز روسيا عبر أراضيها الى أوروبا، وبدل ذلك فإنّ هدفها هو أن تصبح روسيا مصدر حاجة تركيا للغاز الروسي كما هي أوروبا حالياً وحتى إشعار آخر.
وفي التعليقات الغربية على نتائج لقاء بوتين وأردوغان، تلحظ المصادر الديبلوماسية أن ليس صحيحاً أنه أفضى إلى اتفاقات ولو مبدئية؛ ذلك أنّ أيّ اتفاق جدّي حول سوريا يحتاج إلى تفاهم أميركي – روسي؛ تلعب فيه أنقرة دوراً تنسيقياً وليس مقرّراً. أضف الى ذلك أنّ أزمة الثقة بين الكرملين وأنقرة لم تُجسّر بكاملها بعد؛ فأحدث المعلومات الروسية تفيد أنّ المسلّحين الثلاثة آلاف الذين زُجّ بهم في معركة كسر الطوق عن حلب، مرّوا من الأراضي التركية بضغط أميركي، وهم وصلوا إليها من الأردن، ومنها اتجهوا الى إدلب شمال سوريا، على دفعتين: الأولى ضمّت ألفي مقاتل والثانية ألف مقاتل، وتشكّلت صفوفهم من جنسيات مختلفة عربية وشركسية.
وتظهر هذه الواقعة لموسكو أنّ ضبط تركيا لحدودها مع سوريا، ليس قراراً تُمسك أنقرة بكلّ ناصيته، بل هناك حيثية حاسمة فيه للضغوط الأميركية عليها، خصوصاً أنه قبل الواقعة الأخيرة الخاصة بإستجابة تركيا طلب واشنطن السماح بإمرار مسلّحين عبر أراضيها لفك الحصار عن حلب، كانت أنقرة خضعت لضغط أميركي أكثر حدّة، وذلك عندما سمحت بناءً لطلب أميركي أيضاً بمرور ألفي مقاتل من حزب العمال الكردستاني عبر أراضيها ليقاتلوا الى جانب أخوانهم الأكراد في سوريا دفاعاً عن كوباني، علماً أنّ هؤلاء المقاتلين الأكراد الذين مرّوا عبر الأراضي التركية لنصرة كوباني هم أنفسهم الذين يقاتلون الجيش التركي في الأناضول.