دخلَ القصرَ الجمهوري بلقب «فخامة الرئيس» بعدما كان أجبر على مغادرته منذ 26 عاماً بصفة رئيس للحكومة العسكرية. غادر الجنرال ميشال عون قصرَ الشعب على وقعِ هجوم طائرات السوخوي ونيران المدفعية ليعود بأكثرية 83 صوتاً وطريقٍ معبّدة بسجّادة حمراء. لم يملَّ من حلمِه وما ملَّ الحلمُ منه، سنوات انتظرَها بـ»الشِبر والنِدر» ليحقّقَ مبتغاه معيداً الحياة إلى المقام الدستوري الأوّل في الدولة اللبنانية، واضعاً بذلك حدّاً لعامين ونصف العام من الشغور الرئاسي.
إزدانت طريق القصر الجمهوري بالأعلام اللبنانية، فيما انتشَر جنود الحرس الجمهوري وكأنّهم يُغربلون الرمل بنظراتهم، إلى جانب 3 حواجز أمنية ثابتة، الأوّل يكتفي بالتحديق في وجوه الركّاب، أمّا الثاني فيطلب الهويّات ويُدقّق بالأسماء، أمّا الحاجز الثالث فيتفحّص المركبات.
سرعان ما غصَّ موقف الزوّار بالصحافيين المحلّيين والأجانب، وعملت فانات خاصة بالقصر لنقلِهم إلى جناح الإعلام. إلّا أنّ محطة تفتيش رابعة كانت بانتظارهم قبل دخولهم، ليصرّحوا عمّا يملكون من أغراض شخصية وإلكترونيات.
إستنفار مزدوج…
إذا كان الاستنفار سِمة الأجواء المحيطة في القصر، فـ«الغليان» يختصر ما في أروقته، عيون الموظفين شاخصة إلى شاشات التلفزة المنتشرة في كلّ زاوية، أوراق «رايحا» أوراق «جايي» أشبَه بخلية نحل. وحدها السلامات الحارّة المتبادلة فيما بينهم وكأنّهم كانوا في سفر طويل، كسرَت الأجواء الجدّية «والله اشتَقنا للجَمعة الحلوة وهالطلّة»، تصرخ إحداهنّ.
مع اقتراب الساعة الثانية عشرة ظهراً، موعد بدء الجلسة، تضاعفَت حماسة الموظفين وارتفعَ منسوب التركيز لدى الصحافيين الذين توزّعوا على القاعات المخصّصة لهم. هل من مفاجأة تحضَّر للعماد عون؟ كم عدد الأوراق البيضاء؟ هل سيفوز من الدورة الأولى؟
وغيرها من الأسئلة شَغلت بالَ الصحافيين وهم يرصدون الجلسة، فكانت التحليلات، التخمينات، التوقّعات كالنار في الهشيم، إلّا أنّ أيّ واحدة منها لم تُصِب، «ما يحدث لم يخطر في بال أحد قطعاً».
طغَت الدهشة على الأجواء، فيما تَسلّح الحرّاس بجدّية متناهية، وحدَه إسمُ ميريام كلينك تسَلّل إلى قلوب الأمنيين والمدنيين، ونجَح في إرخاء عضلات وجوههم فتبسّموا»، فيما البعض خاف من أن «تزعل هيفاء وهبي»، فتمنّى لو يأتي الرئيس نبيه برّي على ذكرها وهو يُعدّد الأصوات.
تأرجحَت معنويات المتابعين مع توجّه برّي إلى جولة ثانية في الدورة الثانية، وارتفعَت الشكوك، منهم مَن لاذَ بالصمت، وآخرون أطلقوا العنان لسجائرهم متأفّفين: «يعني نهارنا طويل»، «لح يجي الرئيس أو لا؟».
سرعان ما عاد كلٌّ إلى مكانه، وخَفتت التعليقات تزامناً مع توزيع الوجبات الغذائية على الحاضرين وهم يتابعون المجريات، وما إن بدأت تلوح نتيجة فوز الجنرال ميشال عون بالأفق قرابة الساعة الواحدة والنصف حتى ارتفعَ منسوب الاستنفار، ومع إعلان النتيجة في مجلس النواب وزّع العاملون في مكتب الإعلام السيرة الذاتية لرئيس الجمهورية على الصحافيين.
تغبّرت… «جيبو الهوفر»
الاستنفار عينُه انسحبَ على أجواء القصر كافة، فعلى عتبة الساحة الخارجية اصطفّت فرقة موسيقى الجيش، فيما ثلّة من رمّاحة الحرس الجمهوري تأهّبت على طول مدخلَي القصر على وقعِ التعليمات الصارمة: «الرمح بين إجرك والسجادة… تآهّب».
أمّا السجادة الحمراء التي سيَسير عليها الرئيس للمرّة الأولى، فقد كانت الشغلَ الشاغل من أمنيّين، بروتوكوليين، تشريفات، فلم تسلَم من اللمسات حتى اللحظة الأخيرة، «صِرنا منضّفينا 100 مرّة من الصبح»، تُتمتم إحدى العاملات، فيأتي أحد الجنود بـ«مكنسة» يدوية يمشّطها من جديد بعدما حملت إليها الرياح أوراقَ الاشجار، ومع بدء العد العكسي لوصول الموكب الرسمي لعون، نادى أحد الضبّاط بضرورة إحضار «الهوفر»، وإذ بعاملَي نظافة يهرولان كلمح البرق لتنظيفها.
الساعة الصفر
قرابة الساعة الثالثة بدأت عائلة عون بالوصول كباراً وصغاراً، فتجمّعوا عند الباب إلى يمين القصر، فيما تَوزَّع الإعلاميون على جهة الشمال خلف الفاصل الحديدي، عين على مدخل القصر وأخرى على «نافورة» المياه التي لا يتمّ تشغيلها برتوكولياً إلّا عند وصول الرئيس وطوال فترة تواجدِه في القصر.عند الثالثة والربع حلّقَت الطوّافة فوق أجواء القصر، وسرعان ما تمّ تشغيل «النافورة»، فعلت الصيحة «وصل الرئيس عجّلوا إجا»، فيما أطلقت المدفعيات العنان لـ21 طلقة، وتزامناً أطلقت البواخر الراسية في مرفأ بيروت صفّاراتها.
ترَجّل عون من السيارة، مرتدياً بزّةً سوداء وربطة عنق رمادية اللون، وغابت الابتسامة عن وجهه فيما اعتلت الجدّية محيّاه، تَقدّم بخطوات عسكرية على السجادة الحمراء، على وقعِ عزفِ فرقة الجيش لحنَ التعظيم، وبعدها النشيد اللبناني.
وقد كان في استقباله رئيس فرع المراسم والعلاقات العامة. ثمّ تمهّلَ عون ثوانيَ أمام العلم اللبناني قبل أن يتوجّه لمصافحة المدير العام لرئاسة الجمهورية الدكتور أنطوان شقير والمدراء العامّين في الرئاسة ورئيس مكتب الإعلام وقائد لواء الحرس الجمهوري، وأكملَ بخطوات متأنّية ونظرات ثاقبة تدريجاً باتّجاه القصر. دخلَ عون البهوَ وسط صَفّين من رمّاحة الحرس الجمهوري إلى صالون السفراء.
المحطة الأولى
شكّلت عملية التقاط الصور الرسمية المحطة الأولى للرئيس على كرسيّه في القصر، وقد سُمح للصحافيين بالدخول والتقاط الصور له، ولكن ضمن مجموعات. كلّ مَن دخل إلى الصالون رأى عون مستوياً على كرسيّه ويداه تمسكان يدَي الكرسي على نحو منغلِق، إلى يمينه العَلم اللبناني وعن شماله نبتة خضراء.
بعدها انتقل عون مباشرةً إلى مكتبه، حيث وضع وشاح الاستحقاق اللبناني من الرتبة الاستثنائية والقلادة الكبرى لوسام الأرز الوطني. بعدها التقى عون اللبنانية الأولى السيّدة ناديا عون وأفرادَ العائلة والتقط معهم الصوَر التذكارية.
«سيّدي الرئيس»
تَحقّقَ حلم عون، دخل القصر الجمهوري مدعوماً بكتلة نيابية كبيرة وتحالفات صاغَها وشعبيةٍ كبيرة تجلّت بالاحتفالات التي عمّت المناطق. لكنّ العمل الأصعب ورحلة الألف ميل ومشقّاتها تبدأ من اليوم حيث التحدّيات جمّة، وأوّلها تنفيذ خطاب القسَم والمبادئ الإصلاحية التي نادى بها منذ ممارسته العملَ السياسي… ففي بال اللبنانيين الحالمين ألفُ سؤال، اختصرَها الشاعر حبيب يونس في قصيدته «سيّدي الرئيس»، بأبيات: «أتسمع الأحرارَ حين يسألون؟ أمرّتّين الشهداء يُقتلون؟ من يُنقذ الأحلام؟»
على أمل أن يتحقّق حلم الشعب بدولة تحميهم وتؤمّن متطلباتهم وأبسط حقوقهم.