على مدار ٣٥ سنة أثبتت الدولة اللبنانية فشلها في إدارة قطاع الكهرباء والدليل ما وصلنا إليه. وإذا ارتفعت أصوات مُطالبة بخصخصة هذا القطاع، تخرج أصوات أخرى للتنديد بالإقتراح بحجّة أن خصخصة الكهرباء ستزيد من الكلفة، كما قال البنك الدولي. لكن الواقع، أن تحرير قطاع الكهرباء يعود بالفائدة على خزينة الدولة وعلى جيبة المواطن.
بلغ إجمالي دعم الدولة لمؤسسة كهرباء لبنان ١٦ مليار دولار أميركي منذ العام ٢٠٠٨. وتُشير البيانات الرسمية إلى أن نسبة حصة مؤسسة كهرباء لبنان بلغت ٤٦٪ على طول هذه الفترة مع قمّة في العام ٢٠١١ حيث شكّل عجز مؤسسة كهرباء لبنان ما يزيد عن ٧٥٪ من عجز الموازنة.
تشير الأرقام الى أن نسبة عجز مؤسسة كهرباء لبنان إلى عجز الموازنة منذ العام ٢٠٠٨ وحتى يومنا تأرجحت من ٥٥٪ في العام ٢٠٠٨ إلى ٧٥٪ في العام ٢٠١١ و٦٨٪ في العام ٢٠١٤ لتنخفض هذه النسبة مع هبوط أسعار النفط إبتداءًا من منتصف العام ٢٠١٤ إلى ٢٧٪ بحسب مشروع موازنة العام ٢٠١٧(الرسم البياني).
المُشكلة أن هذه الأرقام تُشكّل إنتحارا ماليا مع مسؤولية مؤسسة كهرباء لبنان عن ٤٦٪ من الدين العام أي ٣٥ مليار دولار أميركي كما تُظهره الأرقام. وبالتالي من الواضح أن أي حلّ لمُشكلة الكهرباء هو أفضل من الموجود حاليًا بحكم أن ٤٢ مليار دولار أميركي (٣٥ مليار دولار أميركي + ٧ مليار دولار أميركي فواتير على المواطنين) هو أعلى سعر للكهرباء في العالم إضافة إلى خدمة الأسوء بالنوعية والكمية.
بالطبع، يتوجّب على مؤسسة كهرباء لبنان إعطاء الرأي العام التوضيحات والإثباتات عن سبب هذا الإستهلاك الهائل للأموال بشكل غير مبرّر. إذ إضافة إلى عدم توافر الكهرباء على مدار الساعة وإلى النوعية السيئة لـ Amperage، هناك مُشكلة في السعر وهو أعلى بأربعة أضعاف من مُعدّل الأسعار العالمية في المعامل الحرارية.
بحسب تقرير لوزارة الطاقة والمياه، تبلغ كلفة الكيلوات الواحد من الكهرباء ٢٥٥ ل.ل منها ٦٣٪ فيول و٣٧٪ كلفة توليد. ويُقدّر التقرير الخسارة بـ ٤٠٪ منها ١٥٪ خسارة تقنية، ٢٠٪ خسارة غير تقنية، و٥٪ فواتير غير مُحصّلة.
هذه الأرقام تحوي على عدّة أمور غامضة نذكر منها السعر العالي (٢٥٥ ل.ل للكيلوات) مقارنة بمعدّل ٦٢ ل.ل في العالم للمعامل الحرارية، لكن أيضًا يُمكن ذكر نسبة الفيول العالية (٦٣٪ من مجمل الكلفة) وهذا الأمر غير إعتيادي حيث تُظهر الدراسة التي قمنا بها أن إستهلاك الفيول لا يُمكن أن يتعدّى البضعة ليرات للكيلوات الواحد. وحتى بفرضية أن الوحدات الإنتاجية في المعامل فقدت كفاءتها الحرارية بعشرة مرات عن الأساس، لا يُمكن تبرير ٦٣٪ من ٢٥٥ ل.ل أي ١٦٠ ل.ل !
تحرير القطاع أساسي للإستمرارية
يتمّ شراء وبيع المُنتجات الحرارية مثل الكهرباء وغيرها في أسواق منظمّة (Regulated) أو محرّرة (Deregulated). وبالتالي نرى أن مُعظم الدول تتجه نحو تحرير قطاعاتها الحرارية لهدفين أساسيين: (١) عدم تحميل الدولة أي أعباء مالية، و(٢) تخفيف الكلفة على المواطن. وبحسب تقارير لبعض المُنظمات الدولية، البلدان التي ما زالت فيها الكهرباء مُنظّمة هي أسواق يشوبها الفساد.
تاريخيا، بدأت عملية تحرير الأسواق في بريطانيا في العام ١٩٨٠ مع المرأة الحديدية مارغريت ثاتشر، التي إتبعت سياسة خصخصة قاسية أدّت في البدء إلى تحرير قطاع الغاز ومن ثمّ قطاع الكهرباء. وتختلف هيكلية السوق وآليات تسليم المنتجات الحرارية وفق نوع الطاقة – كهرباء، نفط، غاز، فحم – مما يتطلب مراقبة مختلفة من قبل الدولة على كل سوق.
عدوى التحرير أخذت بالإنتشار في العقد التالي مع إرتفاع أداء الإقتصادي البريطاني مما دفع العديد من الدول أن تحذو حذو بريطانيا وذلك نظرًا للدور الذي تلعبه الكهرباء في العملية الإنتاجية والأنشطة الإقتصادية.
عملية التحرير المُتبعة تفرض وجود ثلاث وظائف رئيسة في سلسلة توريد الطاقة من المعامل إلى المُستهلك:
أولًا – إنتاج الطاقة: مولّد الطاقة مسؤول عن إنتاج الطاقة إن كانت كهرباء، أو إستخراج النفط الأحفوري وتكريره. ويعتمد توليد الكهرباء على الطاقة الأحفورية بشكل كبير مع العلم أنه توجد مصادر أخرى كالطاقة البديلة (النووية، الكهرومائية، الهوائية، والشمسية…).
ثانيًا – التوزيع: أما موزع الطاقة، فهو مسؤول عن التخزين ونقل الطاقة إلى المستهلك عبر بنية تحتية (شبكة كهربائية، أنابيب، صهاريج…). وهذه الوظيفة تفرض تأمين استثمارات في البنية التحتية لأسباب تتعلق بالسلامة العامة كما والأداء الحراري (Energy Efficiency).
ثالثًا – التسويق: مورد الطاقة هو المسؤول عن إتمام العملية التجارية مع المستهلك مما يعني أن المورد يتحمل مسؤولية تأمين المنتجات الحرارية من أي مصدر كان وعبر أي موزع كان بهدف تلبية حاجة المستهلك المحمية من القانون.
والأهم في هذه القضية أن الشركة التي تدخل في مناقصة في أحدى هذه الوظائف، لا يُمكنها المُشاركة في مناقصات الوظائف الأخرى. وهذا الأمر يحمي المواطن من الإحتكار المُركّب (Oligopoly used to be Monopoly). وفي لبنان، تُسيطر الدولة على الوظائف الثلاث (مع إستثناءات تطال بعض الشركات مثل شركة زحلة…)، وبالتالي، نلاحظ أن هذا القطاع يعيش حالة مزرية بدءاً من الإنتاج مروراً بالتوزيع إلى الجباية.
هل عملية الشراكة مع القطاع الخاص مُمكنة، وهل ستتطلّب وقتًا طويلا؟
بالنسبة الى قطاع الإنتاج، فإن وجود مولدات خاصة سيُساهم بشكل كبير في دعم الإنتاج خصوصًا ان كل لبنان يستخدم المولدات الخاصة بإستثناء بيروت الإدارية.
وبالتالي لا شيء يمنع التعاون بين الدولة والقطاع الخاص آخذين بالإعتبار مبدأ أن المولدات الخاصة هي مُخالفة للقانون. هذا الواقع سيُسهّل التعاون وسيسمح بتقليص الوقت إلى ما دون السنة.
على صعيد التوزيع، الشبكة الحالية موجودة وهي تُستخدم لنقل الكهرباء وبالتالي لا توجد قيود في الوقت. لكن من الضروري أن تعمد الدولة إلى إشراك القطاع الخاص بهدف تحديث هذه الشبكة وتأهيلها وهذا الأمر يتطلب وقتا وإستثمارات كبيرة. وبالتالي، يُمكننا أن نقوم بهذا الأمر مع الوقت.
على صعيد التسويق، لا تعتبر الشركات اللبنانية مؤّهلة للقيام بهذه المُهمة وبالتالي، لا شي يمنع الدولة من الطلب من شركات أجنبية المُشاركة في المناقصات.
يقول البنك الدولي في تقريره أن قطاع الكهرباء في لبنان يشوبه الفساد والهدر. وإذ يؤكدّ أن مُعظم الطبقة السياسية وعدت البنك الدولي بالعمل على حلّ مُشكلة الكهرباء، يرى البنك الدولي صعوبة تغيير الواقع الحالي في لبنان. وإذا قال البنك الدولي أن خصخصة قطاع الكهرباء لن تسمح بالتوفير، فقد قصد وجود الفساد في هذه العملية من ناحية أن الشركات التي سيتمّ تلزيمها هي شركات محسوبة على أصحاب نفوذ ولن يتمّ إنتقائها وفق مبدا الكفاءة.
من هذا المُنطلق، يُمكن القول أن طرح تحرير قطاع الكهرباء هو خطوة أساسية نحو وقف نزيف الخزينة العامّة. وبالتالي، يجب ويتوجب على السلطة (رحمة بالعباد) تحريره لأن مؤسسة كهرباء لبنان مسؤولة عن ٣٥ مليار دولار أميركي من الدين العام اللبناني.